العدوانية والعنف والأدلوجة (2من2)

تعرّض مفهوم العدوانية للإغناء اللاحق عن طريق المدرسة السلوكية التي توسّعت في مفهوم الكبت، غير مكتفية بمرجعيته الجنسية كما هو الأمر عند فرويد، بل أرجعته إلى التعليم الاجتماعي، إذ يجري تدريب الفرد على احترام العادات والتقاليد، وعلى إقامة الحدود المعيارية بين ما هو مسموح وما هو ممنوع التصرّف به في العلاقات الاجتماعية العامة، مما يؤدّي إلى المزيد من الكبت لحاجات الفرد التي تخرج عن الخط العام لهذه التقاليد والعادات. يتبنّى هذا التصور أعلام المدرسة السلوكية الجديدة أمثال: دولارد، وميلر، وباندورا، وبركوفيتس.

تختلف مقاربة المدرسة التفاعلية لمشكلة العدوانية، عن نظرية التعليم السلوكية في تركيزها على صراع المصالح الفردية والجماعية وتضارب أهدافها، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى نجاح البعض في تحقيق أهدافه ومصالحه، وإلى فشل البعض الآخر الذي غالباً ما يصاب بالإحباط، فتستحوذ عليه مشاعر العداء ضد الناجحين اجتماعياً. أشهر ممثلي هذه المدرسة هما كامبل، وشيريف.

ترى مدرسة التعرف إلى العدوانية كنتيجة طبيعية لتنافر الذات نفسها وعدم انسجامها المعرفي، إذ تتنازعها منظومات مختلفة من القيم والمعتقدات التي غالباً ما تصبح مصدر إقلاق للراحة، وسبباً للتوجس والعدوانية. أشهر ممثلي هذه المدرسة عالم النفس ليون فستينغر.

بقي ان نشير اخيراً إلى الداروينية الاجتماعية التي حاولت فهم العدوانية على أنها من تركة التراث الحيواني للإنسان، هذاما قام به ك. لورنس في عمله (ارتقاء السلوك وتحوّله)، فقد ركّز قبل كل شيء على (أشكال السلوك الغريزي التي تعطي أنواعاً محددة من الحيوانات، المعلومات اللازمة لمعرفة ماهو ضار ونافع لها). خلاصة القول، يرى لورنس أن العدوانية هي نتاج الأنسنة الناقصة للإنسان، وهي بالتالي معطى غريزي ما زال يافعاً، لذا من الصعب تجاوزه، في أقل تقدير، خلال هذه المرحلة من تطور النوع البشري، التي قد تمتد آلاف السنين.

إذا تأملنا ما تقدم من المقاربات المختلفة لظاهرة العدوانية وحاولنا استخلاص مفاهيم علمية تساعدنا في تحديد الأسباب التي تكمن وراء الحروب الأهلية، أو الحروب الكونية، حيث تأخذ العدوانية أقصى أشكالها الجاحدة بالقيم الانسانية عبر قتل المدنيين العزّل نساء وشيوخاً وأطفالاً، وصولاً إلى الإبادة الجماعية على أسس أدلوجية قومية، كما حصل في الحربين الكونيتين الأولى والثانية، أو على أسس أدلوجية دينية كحرب المئة عام، ولاحقاً الثلاثين عاماً، الأوربية، أو الحروب الأهلية في كل من لبنان والسودان، والبوسنة، وأخيراً الحرب الأهلية السورية التي تختلط فيها أدلوجات متنوعة ومتصارعة من الديني إلى المذهبي، إلى القومي العقيدي، إضافة إلى الإثني، نجد أنفسنا في مأزق إستيمولوجي لا نستطيع فيه توظيف أي من المفاهيم المعروضة أعلاه للإحاطة بهذه الظاهرة.

وكما هو ملاحظ فإنّ هذه المقاربات هي إما وصفية، أو قبلية، أو بيولوجية، أو اجتزائية مجردة. لكن الجامع المشترك بينها نظرياً، هو تجاهلها الجوهر الاجتماعي للإنسان، وكونه نتاج مجمل العلاقات الاجتماعية المحددة تاريخياً.

الطباع البشرية و العدوانية

إن الإقرار بالدور الحاسم للعلاقات الاجتماعية يجب أن لا يستبعد الدور الثانوي للعوامل الوراثية الموجودة في الحمض النووي لخلايا الجسم كلها باستثناء الكريات الحمر. هذه الأحماض تحتوي على الشريطين الوراثيين: (د.ن.أ) و (ر.ن.أ) يختزن الأول معلومات أساسية عن خطّي التطور الفيلوجيني (خط العِرق)، والأنطوجيني (خط الفرد)، ويحدد هذا المخطط الوراثي نماذج الأنشطة العصبية العليا في الدماغ، وما يناظرها من طباع رئيسية.

لعب الطبيب الاغريقي بقراط الذي عاش في القرن الخامس ق.م. الدور الحاسم في اكتشاف الطباع البشرية وتصنيفها استناداً إلى دراسة نسب السوائل التي تفرزها غدد محدّدة في جسم الإنسان، إذ قسمها إلى أربعة أنواع: الصفراوية، والبلغمية، والدموية، والسوداوية.

لم يتعرض هذا التصنيف للطباع البشرية لأي تعديل حتى الآن، سوى أنه أمكن إغناؤه بالاكتشافات الجديدة في مجالي علم التشريح، وعلم وظائف الأعضاء.

كان للطبيب الروسي بفلوف الدور الرئيس في تعميق هذا التصنيف وإغنائه بدراسة الأنشطة العصبية العليا للدماغ التي كرس لها أبحاثه المخبرية منذ 1907 التي أوصلته إلى اكتشاف نماذج للأنشطة العصبية متناظرة مع الطباع على النحو الآتي:

نموذج النشاط العصبي القوي، المتزّن والحركي، ويلائمه الطبع الدموي.

نموذج النشاط العصبي القوي، المتزّن والخامل، ويلائمه الطبع البلغمي.

نموذج النشاط العصبي القوي، غير المتزن والمتصف بقابلية التهيّج الشديد، وضعف الكوابح العصبية، ويلائمه الطبع الصفراوي المتّسم بالعدوانية.

نموذج النشاط العصبي الضعيف في جانبي عملية التهيّج والكبح، ويلائمه الطبع السوداوي.

يتبيّن من هذا التصنيف أن العدوانية تجد أساساً وراثياً يتيماً لها في نموذج واحد من الطباع هو الطبع الصفراوي.

لا ريب بأن لهذا التصنيف فائدة وضعية في مقاربتنا لظاهرة العدوانية، إذ إنه يشير إلى وجودها في بنية الطباع البشرية. هنا من حقنا أن نطرح السؤال التالي: ما الذي يجعل العدوانية تتحول من صفة لنموذج واحد من الطباع إلى أن تغزو الطباع الأخرى بالعدوى الصفراوية إن صح التعبير؟

تبدو ظاهرة التحول هذه جليّة في الحروب الأهلية من كل نوع، والحروب الامبراطورية والكولونيالية.

أدلوجة كراهية الآخر

تختزن ثقافات الشعوب وحوشاً أدلوجية نائمة، تعود بالذاكرة الجماعية إلى تلك الحادثات التي فتحت جروحاً في لاوعيها الجمعي، وهذه الجروح تترسّب في أعماق اللاوعي في صورة علامات سلبية، او قوالب مؤدلجة مسبقاً عن الآخر، سواء كان الآخر ديناً أو طائفة، قومية أو عرقاً، أو حتى عشيرة. لكن وحوش الأدلوجة هذه يتم إعادة انتاجها عبر مؤسسات الدولة الأدلوجية في كل البنيات الاجتماعية الحاضرة. تلعب العائلة دور نواة الأدلوجة التي يتم عبرها وضع البرنامج الأم، عن الآخر، أكان شيطاناً أم ملاكاً، وأهمية هذه البرمجة أنها مشحونة بمصداقية الأب والأم كمرجعية محترمة.

تلعب الأدلوجة الدينية عبر مؤسساتها وخاصة المساجد، والكنائس، والمعابد، دوراً خطيراً في دمج السياسي بالمقدس، وهي بهذا المعنى تنافس، بل تضاهي دور العائلة. هذا القول ينطبق على المجتمعات غير العلمانية حيث تلعب هذه المؤسسات عبر خطبها الدينية الأسبوعية دور المؤدلج الدوري للوعي الاجتماعي.

تلعب مؤسسات الأدلوجة الأخرى، كالمدرسة وأجهزة الإعلام المرئي والمسموع، المحلّي والعابر للبلدان والقارات، دورها الهام في تطويع الوعي الاجتماعي (الاعتيادي والنظري) عبر خطاب الموضوعية المزعوم، الذي يصور الصراع السياسي للطبقات الاجتماعية على أنه صراع بين أفكار مجردة.

إن توظيف أية أدلوجة، (دينية، أو علمانية، قومية أو عرقية، طبقية أو علموية) لتبرير القتل الجماعي أو الفردي للبشر على قاعدة أنهم (الآخر المخالف)، هوممارسة إجرامية بامتياز.

هذا النوع من الممارسة، هو الذي يعمم الطبع الصفراوي ويدخله إلى كل بيت في المجتمع. هكذا يصبح واضحاً أنه بقوة الأدلوجة وحدها تتحول العدوانية من طبع مضبوط لشريحة من المجتمع إلى ظاهرة منفلتة من عقالها تجر بقية الطباع إلى هاويتها، فتجعلها حرباً للجميع ضد الجميع.

في الثقافة الديمقراطية

بعيداً عن التهريج الأدلوجي الذي يقع فيه بعض المثقفين العرب يميناً ويساراً، والذي يختزل مفهوم الديمقراطية إلى حكم الأكثرية، يمكن اعتبار الثقافة الديمقراطية شرطاً ضرورياً مطلقاً لوجود أية ديموقراطية حقة.

يبدأ وجود هذه الثقافة قبل كل شيء، مع حرية الضمير المطلقة للفرد والجماعة، ومع الإعلاء من شأن التعدّد والاختلاف، وتشجيع البحث الدائم عن الحقيقة، والانفتاح على فضاء بلا تخوم لطرح الأسئلة بعيداً عن عقلية التحريم المنافية لحرّية الاعتقاد كتجربة محض شخصانية، إضافة إلى جعل الحوار الهادىء والرصين الطريقة المثلى في أدب النقاش، مع تشجيع ثقافة الاستماع والإقناع بعيداً عن أساليب الإكراه والقمع التي يتّسم بها العقل السلطوي، التثبيت القانوني لمساواة المرأة بالرجل على جميع الصعد، واستبعاد العنف والإكراه من التربية العائلية والمدرسية، وتعميم ثقافة الإقناع بالحوار السمح.

هذه بعض العناصر الأكسيولوجية لثقافة ديموقراطية سويّة، تتحطم على صخورها أمواج العدوانية العاتية.

 

عن مجلة (الطريق) ـ العدد 13 ربيع 2015

العدد 1107 - 22/5/2024