الجبهة السياسية والعسكرية للعولمة الأمريكية

العولمة الأمريكية اللبرالية المتوحشة هي أبعد ما تكون عن معنى السلام العالمي والتعاون والشراكة الدوليين، بالعكس فهي المنبع الرئيسي للصراعات والعداوات بين الدول وداخلها، مهما بالغ الخطاب الرسمي الأمريكي في تجميل صورة عسكرته للعالم واختراع المبررات الأخلاقية لها والتي قد تصل إلى حد السخرية أحياناً، كمثال إطلاق مفهوم الاحتواء containment كبديل لمفهوم الاستعباد، أو ما جاء في خطاب جورج بوش الأب في عام 1990 من إعلان ولادة نظام عالمي منبثق من تحت أنقاض جدار برلين والاتحاد السوفييتي، وبشّر بعالم لا مواجهات فيه، متحرر من الإرهاب، وأكثر أمناً وسلاماً تزدهر فيه كل أمم الأرض في الغرب والشرق والشمال والجنوب.

ولم يكن الرئيس بوش خجلاً من نفاقه العلني فقبل عام فقط (1989) كان عشرون ألفاً من جنوده قد احتلوا الممر المائي لبنما وقتلوا عدة آلاف من المدنيين الأبرياء، وبعد الخطاب بعام فقط (1991) شحنت الولايات المتحدة 500 ألف جندي في أكبر حشد للقوات الأمريكية إلى الخليج لغزو العراق تحت غطاء إنساني إضافة إلى 28 ألف جندي أمريكي توجهوا إلى الصومال.

لقد حولت إدارات كلينتون والبوشَيْن (الأب والابن) وأوباما العالم إلى جحيم مشتعل بصراعات دامية غير مسبوقة، والازدهار الذي وعدوا به الشعوب لم يكن غير ازدهار للقوة العسكرية الأمريكية والعنجهية والتدخل السافر بشؤون الأمم الأخرى سواء باستخدام المنظمات الدولية أو بالدوس عليها وعلى القانون الدولي برمته. ففي زمن كلينتون 1998 شنت الولايات المتحدة ضربات صاروخية على أفغانستان والسودان، وفي عام 1999 شارك خمسة آلاف جندي أمريكي في الهجوم الأطلسي على يوغوسلافيا مما أدى إلى تقسيمها وسقوط 175 ألفاً من الضحايا.. وفي عام 2001 شارك 13 ألف جندي أمريكي في غزو أفغانستان ثم 130 ألف جندي أمريكي في غزو العراق مجدداً عام 2003 ويقدر عدد ضحايا الحرب على أفغانستان والعراق بأكثر من مليونين ونصف المليون، معظمهم من النساء والأطفال بناء على تحقيقات الكونغرس الأمريكي نفسه.

وقد ارتكبت القوات الأمريكية خلال هذه الحروب مجازر وجرائم حرب سواء بالقصف الجوي على المدنيين العزل أو عمليات اغتصاب نساء ورجال أو قتل أسرى حرب أو تعذيبهم وانتهاك آدميتهم أو إبادة جماعية أو استخدام أسلحة محرمة دولياً، إضافة إلى ماخلفته هذه الحالة من انتشار ظاهرة العصابات والإرهاب وعودة إلى سباق التسلح وتفاقم مشاعر الكره والحقد واتساع نطاق اللصوصية وتجارة السلاح والمخدرات والبشر والخطف وحلول الفوضى العارمة والبلبلة في مختلف أنحاء العالم.

يذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة في العالم التي استخدمت أسلحة الدمار الشامل وأنفقت حسب تقرير معهد بروكنغزمن عام 1940 إلى عام 1996 نحو 8 تريليونات دولار على تطوير واختبار نحو 70 ألف سلاح نووي. كما تنتشر القواعد العسكرية الأمريكية وهي الأكبر والأكثر في كل أنحاء العالم ويبلغ عددها نحو 1000 قاعدة.

ويجدر بالذكر أن 35 قاعدة جديدة قد أقامتها الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والوعود الأمريكية بعالم يسوده السلام والازدهار والرخاء. وتنتشر هذه القواعد في 150 دولة، وتضم نحو 350 ألف جندي أمريكي. أكبر القواعد في بريطانيا وإسرائيل وكوريا الجنوبية وألمانيا واليابان وتحاصر منطقة الشرق الأوسط قواعد ضخمة في كل من الكويت والسعودية وقطر والبحرين وعمان والإمارات والأردن ومصر والعراق وجيبوتي واليمن وتركيا تعج بعشرات آلاف من الجنود وأعداد كبيرة من الدبابات والطائرات والمروحيات وقاذفات القنابل الاستراتيجية ووحدات الباتريوت ومقر للأسطول البحري الخامس ومخازن ضخمة للأسلحة والعتاد وقيادة للقوات المسلحة دون أن ننسى أن خطط البنتاغون العسكرية مصممة لغزو العالم وفقاً لهذا الانتشار العسكري المنسق مع قوات حلف الناتو بشكل منظم ومتزامن.

النقاش السياسي الدائر في واشنطن حول الحرب يستبعد العامل الاقتصادي الأساسي والملازم للأزمات المالية ليركز على مبررات مضللة أمام الرأي العام تظهر منطق القوة المتغطرسة بمظهر أخلاقي، رغم أن حراس الإمبراطورية يعرفون حق المعرفة ما الذي يفعلونه في الكواليس بعيداً عن رقابة أحد.. ففي عام 2002 مثلاً تحدث معهد القيم الأمريكية عن خيارات عدة، بينها العامل الاقتصادي، لكن ما أعلنه أمام الصحافة هو خيار من خيارات شريعة الغابة. يقول إن (العقل الأخلاقي الشامل، المدعو بالقانون الأخلاقي الطبيعي يمكن ويجب أن ينطبق على الحرب) (راجع واشنطن والعالم ص 36)، وهو النهج ذاته الذي يتبناه الخطاب الرسمي الأمريكي حين يقسم العالم إلى إمبراطورية خير (أمريكا) وإمبراطورية شر (باقي دول العالم وخاصة المهتمة بسيادتها الوطنية)، فكما استخدم جورج بوش الأب مبدأ التعاون والشراكة الدوليين لفرض الأمركة على العالم عن طريق القوة، تستخدم الأخلاق للغرض ذاته، فعلى الرغم من غباء بوش الابن، وهو ما يؤكده المتخصص في علم النفس في جامعة كاليفورنيا (دينكيتسيمونطون) قائلاً: (ذكاء بوش الابن لايتجاوز متوسط ذكاء طالب في المدرسة الثانوية في أمريكا) (شبكة الرافدين الإخبارية 14/9/2006)، ولكنه على الأقل وربما بسبب ذلك الغباء كشف ماحرص والده على إبقائه مستوراً. ففي 21 أيلول 2001 في أعقاب هجمات 11 أيلول الإرهابية على مركزَيْ التجارة العالمية أمر العالم أن يحدد موقفه استناداً إلى مبدأ (من ليس معنا فهوضدنا)، وهو حقيقة لم يفعل سوى إعلان ملخص لمنظومة قيم أمريكية تقوم على الأنانية المفرطة والإخضاع بالقوة العسكرية والعنف والوهم الإلهي الذي يضفي على الحرب نوعاً من القداسة الأسطورية، ثم لم يلبث في خطاب آخر عام 2002 أن حدد من يقف على رأس الأشرار في العالم (الدول المارقة)، وهي العراق وإيران وكوريا الشمالية، وأضاف إليها سورية فيما بعد..

أما أوباما الذي بنى حملته الانتخابية على المزاج الشعبي الرافض لجموح بوش الابن العسكري، فقد غيّر مظهر المعركة ظاهرياً من حرب تخوضها القوات الأمريكية بشكل مباشر، ويعود المئات من أفرادها بالتوابيت إلى أهلهم وهو هاجس الأمريكيين وهمهم الأساسي، إلى حرب ناعمة تديرها المخابرات المركزية الأمريكية وتنفذها ميليشيات وكيلة متطرفة تعتقد أنها تؤدي واجبها تجاه الله ضد الكفرة.. ومع الأسف فأن سورية وماشهدته من مجازر وويلات وفظائع ودمار،كانت مسرح الحرب أوباما الناعمة في أسوأ مأساة عرفها العالم بعد الحرب العالمية الثانية.

على الرغم من وجود أصوات مناهضة للحرب في الولايات المتحدة مثل نعوم تشومسكي الذي وجه نشاطه السياسي لإدانة الإجرام واللاأخلاقية والكيل بمكيالين في السياسة الخارجية، وانتقاد ويليام بفاف رؤية المحافظين الجدد التي تقول إنه على الولايات المتحدة ألا تكتفي بنشر قوتها في الخارج فحسب، فالهيمنة حسب اعتقادهم مصلحة لكل الناس، وكذلك انتقاد ويليام مانيس للمعسكر الإمبريالي المحافظ وجماعة كيغان وكريستولو ولفوبيتز، الذين يرون أن الشرعية تنشأ من السلطة، وأن الجميع سيفهمون لغة القوة، إلا أن هذه الأصوات وغيرها أحالها مبدأ ريغان (إدارة الإدراك الحسي) إلى هامش الحياة الاجتماعية الأمريكية، فباتت معدومة التأثير على الشأن العام.(راجع واشنطن والعالم، ص 117).

العدد 1105 - 01/5/2024