انتقام الطين.. من أهل الطين

أن يغرق الإنسان في الوحل، يختلف عن غرقه في البحر أو النهر والمستنقعات.. وأن يغرق في بئر من سمن وعسل وورود، يختلف عن كل غرق.

إن كل غرق وله أسبابه ونتائجه، ولا شك أن نهاية كل غرق هو الاختناق والموت. تعدد الغرق، والموت واحد.

لكن تبقى رمزية ودلالة الغرق في الأمكنة الموحلة، أو بين أنياب الكلاب ولدغات العقارب، تختلف عن دلالة الغرق في قدور العسل والورود، فمن يموت بطعنة العدو، غير ذلك الذي يموت بطعنة الصديق، ومن يصدعه الذئب بمخالبه، يختلف عن ذاك الذي تنهشه الكلاب حتى الموت!

في بداية الخليقة، كانت للإنسان علاقة طيبة مع الوحل والطين، علاقة احترام بين المادة والروح، بين الأصابع المبدعة والوحل. وبقدر الإبداع يكون عطاء الطين. المبدعون سخّروا الطين لخدمتهم، وخدمة من حولهم.. فبنوا منه البيوت والقلاع، وزرعوا فيه بذار القمح وشتلات الزيتون وحبات النخيل، ونقشوا عليه مذكراتهم وأحلامهم وانتصاراتهم، فلولا الطين ما وصلت إلينا حضارات البشر الأولى، ولولاه لقلّ طعامنا وربما انعدم، منه خرجنا، وإليه سنعود، هو الذي حفظ لأولاد آدم ثروات الأرض وثلوج السماء. فطوبى لك أيها الطين المبارك، وطوبى لمن عرف كرامتك ووزنك الحقيقي.

من الطين خلق آدم، ومن الطين خرجت أنواع مختلفة من الحياة.. لقد كانت تلك المادة مقدسة لأن الأصابع التي عملت فيها كانت عارفة، ونواياها سليمة.

وبمرور الوقت طغى الجهل على المعرفة، فأصبح الطين ثورة علينا لا لنا، وانقلب الماء الذي فيه أمواجاً وعواصف عاتية تضرب منازلنا، وتعصف بنفوسنا.

لقد تغيّرت نوايانا تجاه الطين، فأراد ذاك الذي خرجنا منه، وأخرج لنا الزرع والشجر أن يعاقبنا عى طريقته الخاصة.

أليس باستطاعة الطين أن يبتلع في دقيقة، ما أعطانا إياه في سنة؟!

ألا يشبه العواصف والأعاصير التي تأخذ معها وتقتلع كل شيء بنيناه في حياتنا؟!

هنا تحضرني حكاية جدي والحمار..

فذات صيف.. بينما كنا نحصد مع جدنا في الحقول البعيدة، فجأة عبست الدنيا واسودّ وجهها، ثم بدأت السماء تمطر..

قال الجد: هيا يا أولاد، لنعدْ إلى الدار بسرعة..

ركبنا الحمار أنا وأخي، بينما انطلق الجد بنا ماسكاً الحبل.. كان المطر غزيراً..

يغيب.. ثم يحضر فجأة.

ولا نعرف كم من الوقت مضى، حين بدأنا نحس بأن فماً واسعاً شرع يبتلعنا.. صحنا: جدي.. نحن نغرق..

انتبه الجد لذلك، فركض نحونا.. أنزلنا عن ظهر الحمار، وابتعد بنا في حين راح حمارنا يتخبط في الطين محاولاً الخلاص.. حكاولنا سحبه، وشده بالحبل لكنه كان ثقيلاً، أم أن الطين كان أثقل منا بكثير؟!

قال الجد: ابتعدوا يا أولاد.. ابتعدوا..

ثم راح يتقدم نحو الحمار وهو ينزع بعض ثيابه ويرمي صوبنا حزامه الجلدي القديم المعلق فيه خنجره المسموم.

غاص الجد في الوحل متقدماً بكل عزم وشجاعة نحو الحمار.. وفجأة تذكرت لماذا فعل ذلك، فقد نسي في خرج الحمار بعض كتبه القديمة التي كان يقرأ فيها أثناء استراحتنا في الخيمة، إضافة إلى دفتر مذكراته عن الثورة والثوار، وكانت الكتب تتحدث عن تاريخنا الحافل بالبطولات والانتصارات.

لكن غرق حمارنا كان أسرع من وصول جدي إليه!

وبصعوبة أخرجنا الجد من بركة الطين، في حين اختفى حمارنا بما حمل في الوحل إلى الأبد.

الشيء الوحيد الذي مازال عالقاً في ذهني، ويسبب لي كثيراً من الحزن والكآبة، هو موت جدي بعد تلك الحادثة بعدة أيام!

العدد 1107 - 22/5/2024