ليون تولستوي رسول السلام والعدالة الاجتماعية في «الحرب والسلم»

رواية (الحرب والسلم) عمل عبقري، يقرُّ نقاد الأدب بقيمتها الإبداعية، وبعظمتها الرائعة. فهي رواية رحبة المدى، تمتاز بسعة الأفق، وهي زاخرة بالحياة من كل جهة،  دائمة الإثارة، تظهر النضال الروحي للنوع البشري.

وهي تدور حول الغزو النابليوني لروسيا، هذا النضال الذي يتجلى في مراحل عديدة، من الهمجية إلى المدنية، ومن سفك الدماء إلى الوفاق، ومن البغضاء إلى الحب. فهناك تتابع في صور الحياة التي تعيشها أجيال معينة، الشباب الذي يؤول إلى النضج والكمال، الفرص التي تلتقي أو تتعارض وتتجدد، الأمل الذي يزدهر ثم يذوي ليعاود الظهور في حياة أخرى، والشيخوخة التي وهنت وهي تتطلع إلى شعلة الشباب مرة أخرى، تلك هي مادة الرواية.

فالشباب والشيخوخة، المد والجزر المتكرر هي الفكرة الأساسية لرواية تولستوي، فكل مؤلفات تولستوي عن الحرب جاءت إدانة لها وهجوماً عليها، فهو يرفض الحروب ويعدُّها ظاهرة (منافية للعقل)، ولم يسوّغ سوى الحروب الدفاعية تحريراً للوطن من الغاصبين المحتلين.

فتولستوي الذي ولد عام ،1828 بعد أن وضعت حرب نابليون على روسيا أوزارها، عرف الكثير عنها من مصادر عديدة، منها أقاصيص والده الذي اشترك في الحرب، وحكايات أقاربه، وحكايات فلاحي ضيعته، وقراءات تولستوي المكثفة عن الحرب واطلاعه على وثائقها. وتحرياته وسِيَر عدد من الشخصيات التي ارتبطت بالحرب وروايتها. فقد وجد في تلك الأحداث الدامية التي حددت مصير روسيا إلى حد كبير مختبراً فعالاً لكي يحدد مواقف مختلف طبقات الشعب الروسي وفئاته تجاه تلك الأحداث.

وفي هذه الرواية نجده يصور أهم ملامح عصره، فهو يرى أن مهمة التاريخ الحقيقية هي تصوير تيار الحياة الشامل. فالناس هم الذين يصنعون التاريخ، والتاريخ يخضع ويؤثر أيضاً على الناس.

فحين غزا نابليون بجيوشه روسيا، وصل إلى موسكو بعد أن هجرها أهلوها وأضرموا فيها النيران، ولم يصمد نابليون أمام المقاومة  وتدهور حال أفراد جيشه وانسحب في اتجاه الغرب أمام المطاردة الروسية. وفي أول الأمر أصبح نابليون كالأسطورة، فقد نفذت روحه بعمق إلى المجتمع الأرستقراطي النبيل في روسيا، وبدأ الكثير من الشباب يتخذونه نموذجاً للعبقرية والمجد ولاسيما الشباب الأرستقراطي، أمثال الشاب دوخلوف. فهم يضيعون وقتهم في تسلية بلا فائدة، ونجدهم يفضلون التحدث بالفرنسية. فتولستوي في روايته يعكس الكثير من أشكال الانتهازية التي تميز هذا المجتمع، فهو يحدثنا عن موت العجوز بيزخوف ممثل الجيل الأكبر، فتصبح ثروته الشاغل الأكبر لأقاربه المحيطين به. والانتهازية تغلب أيضاً على زيجات هذه الطبقة، فالزواج مرتبط بالمصالح المادية، أما المشاعر والعواطف فلا حساب لها، فالأمير فاسيلي كوراجين مثلاً.. يجبر ابنه أناتولي على التوجه معه لخطبة الأميرة ماريا بولكونسكي التي تبدو ذميمة لفاسيلي، فنجده يحدث نفسه قائلاً:

(ولماذا لا أتزوجها مادامت غنية جداً..؟ فالزواج لن يعوقني أبداً).

فالنميمة والأنانية من السمات المميزة لهذا المجتمع.

ويصف تولستوي في روايته الحياة المدنية، ثم ينتقل في انسيابية ليصور أرض المعركة والمواقع الحربية بكل تفاصيلها، وتحرك الجيوش الروسية في المدن والقرى النمسوية، وشخصية القائد الكبير كوتوزوف، وشخصية القيصر ألكسندر الأول الذي أصبح مبعثاً لشعور الوطنية العمياء لدى بعض الشباب من أبناء الطبقة النبيلة. ومشيراً إلى أن (نيكولاي لم يكن الوحيد، فقد كان هناك عشرات الناس في الجيش الروسي يستشعرون نفس الشعور في تلك الأيام التي لا تنسى والتي سبقت معركة أوسترليتز).

لقد تحالف القيصر ألكسندر الأول مع النمسا في الحرب الأولى، أما الحرب الثانية فقد برزت حرباً مقدسة خاضها الشعب للدفاع عن أرضه وشرفه، وتحولت إلى حرب شعبية تحريرية، عند اقتراب العدو من مدينة سمولنسكي الروسية التي بدأت تحترق وتُسَلِّم للعدو. فقد ولّد هذا لدى الشعب شعوراً بالكراهية والانتقام من العدو، مما أدى إلى استيقاظ الوعي الشعبي الجماهيري، وأدى إلى التحام الشعب بقيادته التي ظهرت بمعركة (بوردينو) على مشارف موسكو، فكانت نقطة التحول في مجرى الحرب. مما أدى إلى سقوط موسكو بيد قوات نابليون رغم خسائر نابليون الكبيرة، فمعركة (بوردينو) هي المعركة الفاصلة في الحرب الروسية النابليونية.

 ونلحظ تصوير تولستوي للمناخ الاجتماعي في الفترة السلمية التي أعقبت الحرب والصراع الاجتماعي بين السادة والفلاحين الأقنان، ووصف علاقة نيكولاي رستوف بالفلاحين في ضيعة زوجته ماريا.

الشخصيات والأنماط التي رسمها تولستوي في روايته كانت متنوعة ومتعددة، فالبطل الحقيقي في روايته هو الشعب. أما الشخصيات النبيلة في الرواية فجاءت لتصور ثلاثة أجيال من هذه الطبقة، وتبرز شخصية بولونسكي والدالأمير أندري والأميرة ماريا ممثلاً للجيل الأكبر من الطبقة النبيلة. ويظهر الأمير أندري أرستقراطياً نبيلاً، جميل الطلعة، جذاب الشخصية، وهو غير راضٍ عن جو اللهو والعبث المحيط به، فهو يملك القوة التي تساعده على تخطي الهوة التي تفصل بين معتقداته وأفكاره، فقد تأثَّر وانبهر بأسطورة نابليون، إلاَّ أن شجاعته ووطنيته الصادقة يظهران بجلاء في وقت تقهقهر الجيش الروسي بعد بدء الهجوم في معركة (أوسترليتز)، إذ يشعر الأمير أندري بدموع الخجل والإخفاق، ويلتقط الراية الملقاة على الأرض ويصرخ في الجنود لكي يتبعوه. ويسقط الأمير جريحاً، ونلحظ عودة الوعي للأمير أندري، إذ يتضح له سراب المجد الزائف الذي كان يركض وراءه، ويتهاوى المثل الأعلى لنابليون الأسطورة، عندما يتعرف على الأميرة ناتاشا رستوف التي لعبت دوراً كبيراً في التطور النفسي للبطل. ولكن في غياب الأمير أندري يخدع أناتولي كورجين ناتاشا وتقع فريسة له. وهناك شخصية أونيجن وشخصية بيير، كان بيير في جوهره إنساناً طيباً وواعياً ومسالماً وعلى علم ومعرفة، وكان يهرب من أفكاره وتأملاته، فهو يشرب كثيراً ويبتاع اللوحات ويثرثر في الصالونات وينغمس في حياة اللانشاط واللاعمل.

ويحدث الانعطاف الحقيقي في روح بيير تحت تأثير لقائه بالفلاح بلاتون كارتيف. لقد كان لآراء كارتيف الدينية وشعاره (بالصبر ساعة، للعيش قرناً)، أثر بعيد على بيير، ونرى في بداية الرواية إعجاب بيير الشديد بشخص نابليون (أسطورة عصره)، وكان يرى أن الحرب ضد نابليون لا معنى لها، إلاَّ أن كل شيء انهار في كومة من الزبالة بعد مشاهدته لمنظر قتل الأسرى.

ومن أبرز الشخصيات النسائية في الرواية شخصية الأميرة ناتاشا رستوف، التي ارتبط اسمها بحياة البطلين الرئيسيين أندري بولكونسكي وبيير بيزخوف، فقد لعبت بشخصها دوراً كبيراً في حياتهما، وتجسد شخصية الأميرة النبيلة الأرستقراطية النشأة، والقريبة إلى الشعب بالروح والقلب، ويصورها تولستوي بأنها: (أنثى قوية وجميلة ومثمرة).

ولكن الروح المتأججة من الصعب أن تخبو تماماً في مثل ناتاشا، فقد تحول حبها كلية إلى زوجها وأطفالها.

وفي التقنية الفنية للحرب والسلم جمع تولستوي بين الرواية التاريخية والاجتماعية والنفسية والفلسفية.

ورغم محاولة تولستوي إحصاء بعض الأسباب الموضوعية لنشوب الحروب، نجده في النهاية يصل إلى استنتاج ينسجم مع نظراته المثالية للحياة والتاريخ، التي تجعله يؤمن بقدرية الأحداث.

العدد 1105 - 01/5/2024