إشكالية العقل عند الأشاعرة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي

 بقي المذهب المعتزلي هو المذهب الرسمي للدولة العباسية مدى ثلاثة عهود من الخلفاء العباسيين، بدأت في عهد المأمون أول من تبنى هذا المذهب، واستمرت في عهد كل من أخيه المعتصم ثم ابنه الواثق. صحيح أن لشخصية المأمون المثقف الشغوف بالبحث العلمي والأدبي علاقة بذلك، لكن هناك ظروف تاريخية اجتماعية لعبت الدور الأساس في هذه الظاهرة.

عند التدقيق في هذه الظروف فإن أول ما يلفت النظر فيها هو كيفية وصول المأمون إلى سدة الخلافة بعد صراع دموي بين زعامات القوى الإقطاعية وأمرائها التي تؤيد أخيه الأمين، والقوى الأخرى الممثلة باقتصاد المدينة ومجتمعها التجاري والحرفي وانتشار الأفكار الحرة بين مثقفيها، هذه القوى هي التي ساندت المأمون لاعتلائه عرش السلطة المطلقة، فقد انتعشت الحركة التجارية في العهد الأول للدولة العباسية عندما أصبح العراق مركز الخلافة ملتقى الطرق التجارية العالمية آنذاك، فأدى ذلك إلى ازدهار التجارة، وقد دعم العباسيون هذا النشاط وكان من أبرز جوانب الفعاليات الاقتصادية في عصرهم الأول، هذا الوضع أنعش المدن والفئات الاجتماعية التي تنمو وتتطور في إطارها من أصحاب الأموال والصناعات الحرفية وصغار التجار، وكانت هذه الفئات تضم مزيجاً من الأقوام من عرب وفرس وترك وزنج وروم ونبط وأرمن وسلاف وأكراد وبربر الخ.. تربطهم جميعاً اللغة العربية المسيطرة، لغة الدولة الرسمية، وقد تناقضت مصالح هذه الفئات مع مصالح الفئات المرتبطة بالإقطاعيات الريفية، وكان لابد لهذا التناقض أن يتبدى سياسياً، فكان الصدام بين الأخوين الأمين والمأمون والذي انتهى بمقتل الأمين.

ارتفعت في عهد المأمون راية الفكر الحر المتمثل بعلم الكلام (اللاهوت) المعتزلي، وبقيت هذه الراية مرفوعة بقوة الاستمرار في عهد أخيه المعتصم وابن المعتصم الواثق لاستمرار تلك القوى التي ساندت المأمون والتي حافظت على مكانتها تقريباً إلى نهاية عهد الواثق.

ثم جاء المتوكل وكانت قد أزيحت هذه القوى عن المراكز الاجتماعية التي كانت تحتلها مع تراجع النشاط التجاري وبداية تفكك الدولة العباسية، وحلت مكانها قوى الإقطاع ومن يمثلهم من المحافظين، وأصبحوا جميعاً أداة ضاغطة على الخلافة توجه سياستها وفق مصالحها وتفكيرها، حتى ألغى المتوكل بعد عامين من حكمه مذهب الدولة المعتزلي وأحلّ محله المذهب السني السلفي.

وينبغي القول هنا، إن الاضطهاد الذي عومل به خصوم المعتزلة أثناء خلافة المأمون والمعتصم ثم الواثق، قد أفاد هؤلاء الخصوم أكثر مما أفاد المعتزلة ومذهبهم، إذ استغل المحافظون هذا الاضطهاد مبرراً لاضطهاد معاكس أخذ يعانيه المعتزلة ومذهب الاعتزال منذ خلافة المتوكل إلى زمن طويل، هكذا انتهت مرحلة علم الكلام المعتزلي قبل أن تستنفد طاقاتها وتستكمل مهامها التاريخية في سياق تطور الفكر العربي الإسلامي نحو الفلسفة والعلوم الطبيعية، وقد تحول هذا العلم بعد خمسين عاماً تقريباً على يد أبي حسن الأشعري (873 ـ 941 م)، وبعد صياغة نظرية جديدة، إلى إيديولوجية للقوى المحافظة وللسلطة الرسمية للدولة، استمرت أجيالاً طويلة.

حارب الفكر المحافظ الجديد الفكر المعتزلي بسلاح المنهج العقلي نفسه الذي تبناه المعتزلة، لكن بعد أن أحدث فيه تغييرات أساسية أفقدته معناه وأفرغته من جوهرية عقلانيته، فكان الالتزام بالمنهج العقلي شكلياً، واستمر هذا عند مفكري الأشاعرة منذ الباقلاني مروراً بالغزالي إلى ابن تيمية حتى يومنا هذا.

التحايل على العقل

كان الأشعري مؤسس المذهب والغزالي من بعده، مدركين أن حربهما (المقدسة) على الفكر المعتزلي لا يمكن أن تنجح إذا واجهته بفكر متخلف عنه، فالعقلانية المعتزلية كانت قد تركت آثارها في الفكر العربي الإسلامي بشكل لا يمكن تجاهله، لذلك نرى أن علم الكلام الأشعري يستخدم الاستدلال المنطقي وشعار حكم العقل ويرفض الاعتراف صراحةً بالجبر في مسألة أفعال الإنسان، ويتكلم بقانون العلة بشكل يوهم أنه منهج (عقلاني)! فما هي الثغرات في هذا الفكر؟ وكيف تم التلاعب بالعقل؟

1ـ صحيح أن الأشعري لم يتخلّ عن طرق الاستدلال المنطقي، غير أن العقلانية لا تقوم على الاستدلال الشكلي وحده! بل على المنطلقات العقلية التي تنطلق منها مقدمات الاستدلال، والتي كانت عند الأشاعرة تنحصر في مضامين النصوص الدينية وفق رؤية ذلك العصر وإمكانيته ولاشيء غيرها.

2ـ من مبادئ المذهب أن العقل ليس المصدر الحقيقي للمعرفة، يقول الأشعري: (إن العلم يحصل بعد النظر بحكم العادة فقط! وإلا فإن النظر العقلي لا يوجب علماً، وإنما العلم مخلوق لله بعد النظر (أي أن العلم من مخلوقات الله). (كتاب المواقف/شرح السيد الجرجاني)، وأن (معرفة الله بالعقل تحصل، وبالسمع تجب (الشهرستاني/الملل والنحل)، أي أن المعرفة التي تحصل من العقل لا تكفي في إيجاب الاعتقاد والتكليف، والمعرفة العقلية هنا إرشادية ثانوية لا يعتمد عليها، والمرجع الوحيد هو الوحي الإلهي.

3ـ قال الأشاعرة إنهم وقفوا موقفاً وسطاً بين الجبرية والمعتزلة، إذ قالوا بأن (أفعال الإنسان مخلوقة لله ولا يقدر الإنسان أن يخلق منها شيئاً! غير أن الإنسان إن لم يستطع خلق عمله فهو قادر على كسبه). (المقالات/أبو حسن الأشعري)، لكن ابن حزم الأندلسي (456هـ) يرى ـ بحق ـ أن هذا الموقف لا يختلف جوهرياً عن الجبر لأنه لا يثبت للإنسان الاختيار بتعبير صريح، إضافةً إلى أنهم يقولون في مذهبهم الذري بأن الجواهر وأعراضها (الطبيعة والظواهر الطبيعية) متغيرة محدثة والله هو الذي يخلقها خلقاً مباشراً مستمراً، وبذلك يهدمون حرية الاختيار هذه مادام الله عندهم يتدخل باستمرار في كل أفعال الإنسان وفي كل حركة من حركاته تدخلاً مباشراً.

4ـ وحين تحدثوا عن العلة قالوا إن الله هو العلة المباشرة لكل تغير يطرأ على الجواهر والأعراض وأنه ليس هناك علة أخرى في الكون غير الله، وكل عرض جديد يحتاج إلى خلق جديد من الله مباشرةً وهكذا نفوا قوانين الطبيعة والمجتمع كلياً.

إلى هذا انتهى الفكر العربي الإسلامي بعد أن ربح الفكر السلفي ومن وراءه من أمراء الإقطاع المعركة مع المعتزلة، وقاموا بمحو آثارهم وتكفيرهم وإخراجهم عن الدين، ولعل من ظواهر هذه المعركة الإيديولوجية بين الأشاعرة والمعتزلة ما هو معروف عن الغزالي من أنه ألف كتابه الشهير (فضائح الباطنية) تلبيةً لطلب الخليفة العباسي المستظهر (1094م) وسمى الغزالي كتابه هذا (المستظهري) وكان ذلك شكلاً من أشكال الولاء القائم بين أهل علم الكلام الأشعري والفكر الرسمي كجبهة تقابلها في المعركة الإيديولوجية جبهة عريضة أخرى تحتوي مزيجاً من القوى الاجتماعية الفكرية المعارضة لاتجاهات السلطة المطلقة المسيطرة.


*********

المراجع:

ـ النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية- حسين مروة.

ـ تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام – محمد علي أبو ريان.

ـ الملل والنحل- الشهرستاني.

ـ المواقف- أبو حسن الأشعري (شرح السيد الجرجاني).

ـ المقالات- أبو حسن الأشعري.

العدد 1104 - 24/4/2024