محنة بعض المثقفين العرب

غني عن القول إن الحديث لا يدور عن تلك الفئة من المثقفين الذين باعوا ضمائرهم قبل أقلامهم في سوق النخاسة الخليجي والغربي، وإنما عن ذلك القطاع من المثقفين الذين تسرّعوا، منذ البدء، في تبني أحكام مطلقة من الأزمة السورية وغدوا أسرى لتلك الأحكام، بحيث راحت التطورات العاصفة في هذه الأزمة تكشف عن مفارقات في مواقفهم تتفاقم كلما أوغلوا في تقييمها بالاستناد إلى تلك الأحكام المطلقة، وليس لأحكام نسبية، كما تفترض المفاضلة، ومن منظور أحادي الجانب وليس متكاملاً للوضع الملموس.

كان تحديد هذا البعض من المثقفين موقفهم المطلق من النظام السوري، استناداً إلى سجلّ هذا النظام في مجال الحريات الديمقراطية في الأساس، وهو سجل لا يمكن الدفاع عنه، كما لا يمكن الدفاع عن الأسلوب الذي تعاطى به، في البدء، مع الحراك الشعبي لدى اندلاعه في سبيل مطالب عادلة. لكن هذه الأحكام أهملت طابع التطورات اللاحقة، وفشلت في رصد التدخل المبكر للتحالف الغربي – الخليجي – الإسرائيلي في الأزمة، وتحويل مسارها من مشكلة سورية محلية، إلى إقليمية – دولية، وتحويل أهدافها من إصلاح النظام إلى استهداف ليس فقط النظام، بل وقبله وأهم منه سورية ذاتها، وحدتها الجغرافية والسكانية ومكانتها وتراثها.

وإذا كانت المنطقة مستهدفة من واشنطن لفرض مشروعها (الشرق الأوسط الكبير) الذي أطلقته إدارة بوش الابن عقب غزو كل من أفغانستان والعراق، فإن تحالف كل من سورية وإيران والمقاومة اللبنانية شكّل القوة الضاربة التي تصدّت لهذا المشروع الإمبريالي وأفشلته حتى الآن. وفي هذا الإطار الأوسع من سورية ذاتها، ليس من النزاهة السياسية ولا الأخلاقية إنكار دور النظام السوري في التصدي لهذا المشروع البالغ الخطورة على المنطقة وشعوبها ومستقبلها، ولا إنكار دوره في دعم المقاومة اللبنانية في التصدي للعدوان الإسرائيلي على لبنان، بخاصة عدوان 2006، الذي جاء في إطار المسعى لضرب حلقات التحالف الذي يتصدى للمخططات الإمبريالية في المنطقة؛ ولا النيل من دوره أو التقليل منه، في عرقلة ومنع أخذ سورية، بحرب كونية قاربت إكمال عامها الخامس، اللهم إلا إذا كان هذا النفر من المثقفين العرب يتمنى هذا السقوط للنظام السوري ولو بأيدي عصابات الإرهاب السلفية، لإشباع شهوة الانتقام، التي تسيطر على عواطفهم، من هذا النظام.

بمعنى آخر، أحكام هذا البعض من المثقفين العرب ضد النظام السوري تحرّكها نوازع الانتقام على ممارساته السابقة، لا الحرص على ما هو أكبر وأهم من ذلك بكثير، وهو سورية ووحدتها، المعرّضة، اليوم، لأشد المخاطر من الحرب بالوكالة التي تنظمها واشنطن ضد سورية، ولا الحرص على وضع حد لمآسي شعبها وآلامه التي فاقت كل وصف، أي حصر الرؤية بالشجرة وإغماض العين عن الغابة من ورائها، بل وأبعد من ذلك إغماض العين عن المؤامرة الرهيبة على المنطقة بكاملها.

وتحت تأثير شهوة الانتقام هذه، ينسب هذا البعض إلى النظام السوري ليس فقط كل جرائم عصابات الإرهاب التي تقاطبت على سورية من أكثر من مئة دولة، بل وأكثر من ذلك، يبرر هذا البعض، عملياً، الاصطفاف مع كل من يعادي سورية، بدءاً بالغرب الإمبريالي، مروراً بحكام الخليج وانتهاء بإسرائيل. أي أن ما يستولي على كامل اهتمام هذا البعض من المثقفين هو إسقاط النظام في سورية، باعتباره الأولية والأفضلية على أية قضية أخرى، وليس تخليص سورية وشعبها، أولاً، من براثن الإرهاب السلفي المتعدد الجنسيات الذي يستهدف البشر والحجر؛ متجاهلين بعناد يحسدون عليه أن البديل الجاهز، حالياً، للنظام السوري القائم، ليس بديلاً أفضل منه بأي معيار من المعايير، وإنما عصابات القتل والتدمير، من داعش والنصرة وأمثالهم.

أكثر من ذلك، هذا البعض من المثقفين العرب يتبنى، عن وعي أو دونه، خديعة واشنطن وإسرائيل في شخصنة القضية. فإسقاط شخص الأسد هو الذي ينهي كل مشاكل سورية! وفق هذا التشخيص. بالأمس كانت إسرائيل تردد أن عرفات هو المشكلة والعقبة في وجه التسوية السياسية للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، والواقع الفلسطيني القائم اليوم أبلغ رد على ذلك، كذلك ردد ت واشنطن وأتباعها أن صدام حسين والقذافي هما المشكلة، وبشاعة ما حلّ بالبلدين بعد اقتلاعهما، ليس بأيد وطنية وإنما على أيدي الغزاة الإمبرياليين لا يحتاج إلى مفاضلة.

وتبلغ مفارقة هذا النفر من المثقفين العرب ذروتها في تعاطيهم مع الحضور العسكري الروسي في سورية، بناء على دعوة من النظام القائم فيها. فبينما صمتوا صمت القبور، على مدى أكثر من أربعة أعوام، عن مختلف أشكال التدخل الغربي بزعامة واشنطن، وحكام السعودية وقطر وتركيا وإسرائيل، في هذه الأزمة، فإنهم ينضمّون الآن إلى الزعيق مع كل هذه القوى وفتاوى شيوخها المرتزقة للمناداة بالجهاد ضد الروس وضد عدوان الإمبريالية الروسية لضرب الثورة في سورية – ثورة داعش والنصرة وأمثالهما! ويبدو أنهم لم يعودوا يشعرون بالحرج في أن يشكّلوا أحد مكوّنات جبهة الأعداء، لسورية وللشعوب العربية.

ويرفض هذا البعض أن يرى أن الحضور العسكري الروسي حسم وأسقط، منذ لحظته الأولى، خطرين كانا يتهددان السيادة ووحدة الأراضي السورية، الأول: وضع هذا الحضور حداً لعربدة الطيران العسكري الإسرائيلي في الأجواء السورية، الذي نفّذ أكثر من عشر غارات عدوانية، منذ اندلاع الأزمة السورية، وذلك في إطار دعم العصابات الإرهابية. وعلاقة إسرائيل بهذه العصابات لم تعد سراً، وبخاصة تنظيم النصرة، الذي قدّم الإسرائيليون له مختلف أنواع الدعم والمساندة، سراً وعلناً، وعلّقوا الآمال عليه لتشكيل كيان عميل مماثل لكيان لحد وسعد حداد، في مرحلة معينة، جنوبي لبنان.

 والخطر الثاني – هو خطر اقتطاع قسم حساس من الأرض السورية المتاخمة للحدود التركية، كما كان يطالب بإلحاح متصاعد أردوغان، بدعوى إقامة منطقة عازلة يحشر فيها اللاجئين السوريين، الذين جعل منهم رهائن لتبرير تطلعاته التوسعية.

في الوقت ذاته، حسم هذا الحضور العسكري الروسي موضوع آلية تغيير النظام في سورية، بوضع حدّ لأوهام تحقيق ذلك بالعنف، وإنما عبر الآلية السياسية ووفق إرادة الشعب السوري وحده. كما وضع هذا الحضور العسكري الروسي الولايات المتحدة وحلفها الذي أقامته منذ آب العام الماضي، والذي ضم ستين دولة، في مأزق لا يحسدون عليه. فقد زعموا أنه تحالف لمحاربة داعش، بينما كان هذا التحالف يشكل،عملياً، غطاءً لهذا التنظيم الإرهابي، ولم يمنع ولم يعرقل تمدّده على الأرض، سواء في سورية أو العراق. وجاء الحضور العسكري الروسي، وعملياته الفعالة خلال أيام معدودة فقط، ليعرّي مسرحية واشنطن المأسوية، ويتحداهم، إن كانوا جادّين في محاربة هذا التنظيم وبقية عصابات الإرهاب في المنطقة للتنسيق معاً، لكن أول رد فعل لهم على هذا التحدّي هو إسقاط خمسين طناً من الأسلحة لنجدة هذه العصابات من الجو، كما أعلنت المصادر الأمريكية، بدعوى أنها دعم للمعارضة المعتدلة! علماً بأن شهادة جنرال رفيع أمام إحدى لجان الكونغرس، مؤخراً، كشفت أن عملية تدريب الأمريكيين لما يسمى بالمعارضة المعتدلة تمخضت، بعد إنفاق خمسمئة مليون دولار، عن أربعة أو خمسة مقاتلين، أما البقية فقد تحوّلوا إلى داعش وأخواتها، فهل هذه النتيجة مقصودة أم بالمصادفة؟!

وفي الحقيقة، جاء الحضور العسكري الروسي في سورية تجسيداً لالتقاء مصالح أمنية من الدرجة الأولى. فسورية التي تواجه عدواناً قارب الخمس سنوات، من تجمّع دول بحجم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والسعودية وقطر وتركيا وإسرائيل، بحاجة ماسة إلى دعم يعادل هذا الكم من الأعداء، وروسيا من جانبها تعي جيداً أن انتصار الإرهاب السلفي في سورية سيعني انتقاله إلى القفقاس الروسي. فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه، بدأت الولايات المتحدة العمل المحموم على خطين متوازيين ، داخلي وخارجي، بهدف تفكيك روسيا ذاتها وإضعافها إلى أقصى مدى. فعلى المستوى الروسي، تحريض عصابات المتمردين وتمويلهم، في الشيشان وداغستان وأنغوشيا وغيرهم؛أما على نطاق محيط روسيا من الجمهوريات التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، فكان التسليح والتمويل والتحريض، لافتعال صدامات بين روسيا وجيرانها؛ والأزمتان الجورجية 2008 والأوكرانية العام المنصرم شواهد على ذلك.

أما ذلك النفر من المثقفين العرب الذين يغرّدون، اليوم، في معسكر أعداء الشعب السوري والشعوب العربية، فلعل التطورات العاصفة الجارية، اليوم، في سورية والمنطقة، تحفز البعض على مراجعة قناعاته السابقة، وعدم معاندة الحقائق الدامغة على قاعدة: (عنزة ولو طارت!).

العدد 1105 - 01/5/2024