الخطاب الشعري والحياة الإبداعية في شعر خليل حاوي

كان الشاعر خليل حاوي يفيض بالمشاعر المتوترة والمتأججة، فقد زعزعت الحرب ثقته بنفسه، وبالآخرين، وكشفت له زيف وهزال رهاناته الوطنية والقومية. وكانت الخيبات طابع حياته الاجتماعية والسياسية والفكرية والأدبية، فهو الذي حلم مراراً بمدينة فاضلة سياسية أو شعرية أو أدبية، فلم يحصد سوى الريح، كما يقول جهاد فاضل. شعر حاوي بأن حرب لبنان دمرت حياته النفسية الداخلية وخلخلتها ورمت به في مهاوي العدمية والعصيان والجنون. فكان يرى في الانتحار ملاذه الأخير، فحادثة غزو الإسرائيليين للبنان في حزيران 1982 جعلته يشعر بعار وطني وشخصي، مما زاد في نسبة الانهيار الداخلي. وفي ديوانه (من جحيم الكوميديا) نعثر على هذا النغم اليائس:

(أمسي احتراق واحتراق غدي/ وخطوة مرهقة مرهقة/ تهم في الظن ولا تبتدي/ في سبخة محروقة محرقة/ يحترق التراب/ يحترق الحجر/ يحترق السحاب/ لا يلتقي ظل على أرضها/ من غيمة أو نبتة مورقة).

ألم يقل نسيم خوري في انتحاره: انتحر خليل حاوي بهدف التغيير الأكبر، بهدف الموت الحتمي، وتأكيد فصاحة الموت أمام هشاشة الشعر. مات منتحراً يحتجُّ على مدينة تدخل (بخطا ثابتة) العصر الإسرائيلي.

ولم يطق كل ذاك الذل عالقاً بأكتافه، فراح ينقب عن الجمر في (نهر الرماد). فخليل حاوي يقول عن تجربته: (غير أن التجربة التي عانيتها فيما بعد تكشفت عن رؤيا مفجعة، تنفي ما أكدته من قبل، وتشير إلى أننا لسنا في زمن يشارف الانبعاث الأصيل، وما تكشف لي، أن ما يدعى بالانبعاث لم يكن سوى تكرار لترسبات عصر الانحطاط، وليست عودة إلى ينابيع الحيوية في النظرية الإنسانية).

وهو يتخذ من الموت في ديوانه (بيادر الجوع) شعاراً يرفعه ضد هذا الواقع العقيم، ويوظف الأسطورة في قصيدة (أليعازر عام 1962).

فالمعروف أسطورياً أن أليعازر الميت قد بعثه المسيح بعد ثلاثة أيام من موته. فإن أليعازر العصر الحديث لم يقو على النهوض والانبعاث ثانية. ورفْضُ أليعازر الانبعاث إنما هو تعبير عن الوضع الحضاري المنهار، ورمز لتكسر الأحلام النهضوية، ولذلك نرى أليعازر (الشاعر) يختار من نفسه متخذاً أسواق المدينة مطية عبور إلى القاع، فهذه القصيدة تمثل الانهيار الحضاري والسبات العميق الذي يغط فيه العالم العربي:

(عبثاً تلقي ستاراً أرجوانياً/ على الرؤيا اللعينة/ وبكت نفسي الحزينة/ كنت ميتاً بارداً يعبر/ أسواق المدينة/ الجماهير التي يعلكها دولاب نار/ من أنا حتى أرد النار عنها والدوار/ عمِّق الحفرةَ يا حفار/ عمقها لقاع لا قرار).

 كما يرفض خليل حاوي الموت المجاني، ويفر من قبضة الزمن الصعب، فهذه الصرخة ضد الحس العدمي، وهذا التخفي شبيه بذلك التخفي الذي لجأ إليه المسيح في أثناء محاولة صلبه المجاني الظالم:

(خففوا الوطء/ على أعصابنا ياعابرين/ نحن متنا، تعبنا/ من ضباب وسخ/ مهترئ الوجه/ مداجي/ يتمطى أفعواناً/ أخطبوطاً، وأحاجي/ رحم الأرض ولا الجو اللعين).

ويرى خليل حاوي أن الحضارة هي فعل إنساني وفعل وجودي جماعي ضد الموت والهزيمة. فنجده يوظف رمز الغجرية (تفاحة الوعر الخصيب) ليقاوم بها واقعه العقيم، ويرفد رؤيته ويتوحد عبرها مع الطبيعة، فيُجري مقارنة بين جسد الغجرية ووجه الطبيعة من خلال فعل الزمن، وتبقى الغجرية صبية تتفجر حيوية، فجسدها أصبح استمراراً للطبيعة الخصبة المتجددة. فالزمن لم يستطع أن يؤثر عليها، إلا أن الرمز سرعان ما يتهاوى عندما تسري شريعة المدينة على جسد الغجرية الفتي، ويحل فيها الزمن فيحيلها إلى عجوز شمطاء. وهكذا تتهاوى لحظة الخصب، لتحل محلها لحظة العقم، ويستفيق الشاعر على واقع عقيم مرير:

(وهل كنتِ غير صبية سمراء/ في خيم الغجر/ خيم بلا أرض أوتاد/ وأقنعة تعيق/ الريح يحملها فتبحر/ خلف أعياد الفصول/ تحط من عيد لعيد في الطريق/ هيهات يُعرف من أنا، عبثاً، مُحال/ شمطاء تنبش في المزابل/ عن قشور البرتقال).

وفي قصيدته (الأم الحزينة) التي نشرها بعد نكسة حزيران أظهر هذه الرؤيا، فالانبعاث العربي لم يكن سوى انبعاث الموت العقيم الذي يوهم بالتجدد:

(ليس في الأفق سوى دخنة فحم/ من محيط لخليج).

وهذه الرؤية العدمية تتناسب مع طبيعة المرحلة التاريخية التي أثمرتها مرحلة الهزائم والتفكك القومي. وجملة ما كتبه خليل حاوي من شعر في هذا المجال إنما يتمركز حول بؤرة واحدة يعبِّر فيها عن شعور واحد بالإحساس واليأس والخيبة، وطعم الرماد، كما يقول الناقد يوسف اليوسف:

(ماذا سوى كهف يجوع، فم يبور/…، /هذي العقارب لا تدور/

رباه كيف تمط أرجلها الدقائق/ كيف تجمد، تستحيل إلى عصور).

 وأجاد خليل حاوي في (نهر الرماد) استخدام الشكل الأسطوري، لإبراز أزمة التناقض بين الذات الغربية والذات الشرقية داخل البناء الواحد للذات الجديدة. فالذات البروميثية تتحد مع طبيعة الذات التموزية ومغزاها الأسطوري، وبذلك يتمكن الشاعر من التعبير عن البعث وعودة الخصب والحياة وانتصارها على الموت، يجري كل ذلك بعيداً عن المباشرة والتقرير والهتاف وفي تجسيد رؤياه الخاصة، فالتركيز والتكثيف والبناء الأسطوري من مكونات البناء الفني عند خليل حاوي، كما يشير إلى ذلك غالي شكري.

ثم تتضح إشراقة منيرة تهيئ لولادة جديدة، إذ عبرت (الرعد الجريح) عن عودة البطل ويضمحل الضباب: حيث الفردوس وحيث لا سلطة لمدينة روحانية فيعيش أعياداً مستمرة كما تقول ريتا عوض:

(وقلوبٌ وُلدت/ في صفوة العيش البري/ راوحت ما بين/ كدِّ، عرقِ، زرعٍ/ وشحٌّ في الحصيد/ ودويّ الجرن والمهباج/ من عيد لعيد/ حيث يجري/ النبعُ والموّال في ظلّ طري/ ألفت طيب الليالي/ حول نار الموقده).

وفي ديوان (الناي والريح) نلمس الرؤيا الموءودة في الرحلة الثامنة للسندباد.

ولم تكن تلك الرؤيا إلا الصبية، فواجهتها الجاهلية القديمة المتجددة بعقليتها البائسة ووأدتها، والسندباد في رحلته هذه مبحر في عالم ذاته يحاول الخلاص من رموز عصر الانحطاط، وأن يعود به إلى حال البراءة الأولى التي تجعل السندباد يعود طفلاً بريئاً صافياً، إذ كيف يمكن للجاهلية أن تتقبل ولادة صبية بهذا الحسن والبراءة:

(مرآة داري اغتسلي/ من همك المعقود والغبار/ واحتفلي بالحلوة البريئة/ كأنها في الصبح/ شقت في ضلوعي/ نبتت من زنبق البحار/ ما عكس الشلال في ضحكتها/ والخمر في حلمتها/ رعب من الخطيئة).

إن الرؤيا الشعرية لدى خليل حاوي صلبة وعميقة ونافذة، وهذه الرؤيا لم تكن حلماً فردياً منعزلاً عن الواقع القومي والإنساني الحضاري، فقد كان هذا الواقع الراهن واقع انسحاق وهزيمة منكرة. فقصائد خليل حاوي تنذر بأحداث وتحذر منها، فكان انفعاله معاناة لمأساة تتكرر طالما كتمها، وأبى أن ينتقل التكرار من المعاناة إلى الشعر مثلما أبى أن يعبر عن حالات شعرية تتخطى المأساة، فالحس بالمأساة والمأساة ما تزال التجربة المحورية في شعره ولا سيما في قصيدة (بروق وضباب)، فجاءت تعبيراً شمولياً عن مأساة جيل ومرحلة. وقد انصبت عليها الرؤيا المتوهجة.

 وفي تجربته الشعرية يتخطى حاوياً المذهبية الضيقة ويرسي الشعر على قواعد رحبة تستطيع الأجيال اللاحقة أن تبني عليها مذاهب متعددة، فهو يجدد في الإيقاع دون أن يلغيه، ويجدد في الصورة ويجعلها عنصراً معادلاً في القيمة للإيقاع، ولم يجعل الإيقاع أو الصورة يصبحان غايتين بل عدَّهما وسيلتين في تجسيد التجربة، كما نلحظ اتكاءه على الفكر والفلسفة والمسائل الكونية الكبرى، فقصيدته لا تعتني بالتفاصيل اليومية والموضوعات المألوفة، بل بالانبعاث الحضاري والصدام الفكري والرؤية الشمولية. ومن قصائده المميزة قصيدة الجسر، حيث الأمل بحياة سعيدة وانتصار التفاؤل بالحياة وتوق الإنسان إلى التحرر، والتحام الشاعر بالجيل الثائر من أجل الحرية:

(يعبرون الجسر في الصبح خفافاً/ أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد/ من كهوف الشرق من مستنقع الشرق/ إلى الشرق الجديد/…/ إن لي جمراً وخمراً/ إن لي أطفال أترابي/ ولي في حبِّهم خمر وزاد.

 

الهوامش:

1 يوسف اليوسف (الشعر العربي المعاصر).

2 جهاد  فاضل (الأدب الحديث في لبنان).

3 ريتا عوض (أدبنا الحديث بين الرؤية والتعبير).

4 غالي شكري (شعرنا الحديث إلى أين؟).

العدد 1105 - 01/5/2024