تنافس بين التجار والصناعيين في المشي على السجادة الحمراء

يسعى صناعيون إلى إغلاق باب الاستيراد، بالمقابل يبذل تجار جهوداً كبيرة، لإغلاق الأبواب أمام الصناعة الوطنية، هذه ليست محاولات عبثية، بل هناك (لوبي) يمثل كل جهة ويضغط بشكل حاد، لكسب معركة فتحتها الحكومة، بين التجار والصناعيين، لكسب تمويل المستوردات بالدولار. تجاوزت صراعات التجار والصناعيين لعبة المصالح، وخطا الطرفان إلى المناطق المسكوت عنها، وهناك من عبر عن العلاقة الغامضة بين الجانبين، ومايضمره كل طرف للأخر. ما كنا نسمعه همساً، جاهر به الصناعيون بضرورة العودة إلى قرارات ثمانينيات القرن الماضي. بالمقابل دعا التجار صراحة لرفع الغطاء عن الصناعيين، وهم يتكفلون بالباقي. للأسف الشديد تبدو الفعاليات الاقتصادية غارقة في مصالحها الضيقة، لم تعد تطيق تقاسم العمل في سورية، إذ تحاول كل فعالية إلغاء الأخرى، ورميها بسهام النقد وتحميلها مسؤوليات لا علاقة لها بها.

تاجر يبحث عن إغلاق منشآت ومعامل وورش صناعية، في حين لايرى صناعيون في العمل التجاري سوى المزيد من الخسائر المتتالية للاقتصاد الوطني، والضغط أكثر على أسعار الصرف. بهذه البساطة يبلور صناعيونا وتجارنا مواقفهم، منطلقين من قاعدة غير اقتصادية، ولا تمت بصلة للواقع والعمل، ولا تستند إلى ما حّل بالبلاد عقب أربع سنوات من الحرب الطاحنة التي أتت على كل شيء. طروح يندى لها الجبين، وتناقض مبادىء العمل الاقتصادي، وتتنافى مع قضية وطنية كبرى وهامة للغاية، كالتي تعيشها سورية حالياً. كيف لصناعيين أن يملؤوا أسواق البلاد بالسلع والمنتجات وحدهم؟ وكيف لتجار أن يغرقوا أسواقنا باحتياجاتها؟ أهذه هي العلاقة التي تربط بين جناحي الفعاليات الاقتصادية الخاصة من تجار و صناعيين؟ وهل هذا هو المسار الذي يجب السير عليه؟ وهل هذه هي الخطة التنموية الاسعافية التي ينتظرها اقتصاد المحراث القديم، والتجارة العريقة، والمسنن الذي أسّس لـ(صنع في سورية)؟

تبدو المعركة طاحنة بين التجار والصناعيين، هكذا يبدو المشهد حالياً، إذ يتخلى عدد منهم، لا يمكن الاستهانة به، عن قيم العمل الاقتصادي، واحتياجات الاقتصاد الوطني، في ظرف حالك ومعقد للغاية، ويبحثون عن مصالح ضيقة. لا طروحات ابداعية، ولا حلول مناسبة، تسهم في بث الحياة في عروق اقتصادنا الذي يقف على شفير الهاوية، وتتزايد خسائره مع مضي كل دقيقة.

كل ما يمكن التوقف عنده هو الاصرار على العودة إلى منع الاستيراد، وليس تقييده، وإغلاق الحدود أمام السلع، التي تدخل على أية حال بشكل مخالف، وتملأ الأسواق. لماذا لا نستطيع الخروج من ذهنية الثمانينيات التي كانت إلى حد ما تناسب مرحلة زمنية مضت عليها ثلاثة عقود ونيف؟ هل وصلنا في عملنا الاقتصادي إلى حالة من العقم والفلتان؟ عقم نعجز من خلاله عن إيجاد حلول مبدعة ومبتكرة، وفلتان يسهم بعدم القدرة على ضبط إيقاع ما تبقى من اقتصاد؟

يخطىء التجار عندما يسحبون السجادة الحمراء إليهم، ويخطئون أكثر عندما يفكرون بعقلية الاستحواذ، وبالمسطرة ذاتها يمكن القياس على الصناعيين، الذين لا حياة لهم ولصناعتهم بلا تجارة حقيقية، ومنافسة محفزة. ويخطىء الصناعيون عندما يفكرون بإغلاق المنافذ الحدودية أمام السلع، ويرتكبون جريمة أخرى بحق صناعتهم ـ تشبه جريمة الثمانينيات ـ لم نستطع عقب أكثر من ربع قرن التخلص منها ومن قوانينها وسمعتها. تلك الحقبة أفرزت تشوهات قاتلة، في العملين الاقتصادي والتجاري، صناعيونا استكانوا لأسواقنا التي تتميز بضعف القدرة الشرائية، فأنتجوا ما يناسبها، وتجارنا لم يتجاوزوا عقدة الربح السريع، فباعوا بأسواقنا بضائع غير صالحة، وصدّروا سلعاً لا تتوفر فيها مقومات السلع المنافسة، فخسرنا أسواقنا المحلية والخارجية بآن واحد. هذا عنوان مهم لحقبة الثمانينيات، ونتيجة لقرارات التقييد، والمنع والحظر، وأساليب الاحتكار والإستحواذ. ولن يقنعنا أحد بأننا قادرون على الاستفادة من الدرس، لأن ما سمعناه من التجار والصناعيين يثير القلق، ويعبر عن جشع، ويجسد حالة من إلغاء الأخر. اقتصادنا، بوضعه الراهن، يحتاج إلى تعاون، وإلى تشاركية حقيقية، وإلى توزيع الأدوار، وتبادلها بمنطقية، وهو بأمسّ الحاجة إلى التأسيس الحقيقي لانطلاق جناحي التنمية المستدامة أي الزراعة والصناعة، وإلى الخدمات اللاحقة ومنها التجارة.  فالقضية ليست في تاجر أو صناعي وما يريد كل واحد منهما على حدة، بل في مدى حاجة اقتصادنا للقضاء على حالة تشعر فيها كل شريحة اقتصادية وربما اجتماعية بأنها هي أُمُّ هذا الاقتصاد وأبوه.

العدد 1107 - 22/5/2024