مئة عام على صدوره… وعد بلفور بين وثيقتين

 لم يكن وعد بلفور عند صدوره إلا نتيجة لإجراءات تمهيدية طويلة من أجل الحصول على موافقة دولية ضرورية لتحقيق أهداف الصهيونية، ويبرز ذلك من خلال اتصال الصهاينة بكل الدول الإمبريالية، ابتداء من الإمبراطورية العثمانية المتداعية والإمبريالية الألمانية الناهضة، حتى الإمبراطورية البريطانية،
والدولة الإيطالية الحديثة التي بدأت تتطلع إلى الفوز بحصة من المستعمرات، وكانت أولى اتصالات تيودور هرتزل، زعيم الحركة الصهيونية بالإمبراطورية العثمانية، عندما قدم إليها في حزيران عام 1896 والتقى السلطان عبد الحميد الثاني لإقناعه بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، لا لشيء سوى إنقاذهم من التمييز الذي يتعرضون له في أوربا،
وتعهد له مقابل ذلك سداد جميع ديون الدولة العثمانية، وحتى تزويد الخزينة العثمانية بمبالغ تفيض عن حاجتها، فرد عليه السلطان بالقول: (لا أستطيع بيع حتى ولو شبر واحد من هذه الأرض، لأن هذه الأرض ليست ملكاً لشخصي، بل هي ملك للدولة العثمانية.. نحن ما أخذنا هذه الأرض إلا بسكب الدماء والقوة، ولن نسلمها لأحد إلا بسكب الدماء والقوة).

بهذا الجواب الصريح والحاسم رد السلطان عبد الحميد على زعيم الحركة الصهيونية هرتزل، مما حدا به إلى التوجه لطرق باب الإمبراطورية الألمانية لكسب ودها في لقاءات ثلاثة مع الإمبراطور غليوم الثاني عام ،1898 أكد فيها الفوائد التي ستجنيها ألمانيا من تبنيها المشروع الصهيوني الذي سيفتح الطريق البري من البحر المتوسط إلى الخليج العربي
عن طريق بناء سكة الحديد التي تكون بديلاً عن قناة السويس، إلا أن هذه المساعي لم تقنع القيصر الألماني بقبول العرض الصهيوني، بسبب الرغبة بعدم تعكير صفو العلاقات الألمانية العثمانية.. فذهب هرتزل يطرق باب روسيا القيصرية، لكن مساعيه باءت بالفشل أيضاً، كما سعى إلى طرق باب ملك إيطاليا الذي أبدى عطفاً على مشروع استيطان طرابلس الغرب تحت حماية إيطاليا..
أمام هذا الفشل الذريع لم يكن غريباً أن تتجه الحركة الصهيونية إلى كسب ود الإمبراطورية البريطانية باعتبارها القادرة على لعب دور غاية في الأهمية، لا سيما أنها كانت منذ البداية مركز المنظمة الصهيونية العالمية السياسي، وفعلاً بدأت المفاوضات بين هرتزل ووزير المستعمرات البريطاني تشيمبرلن في عام 1901 بمشروع اسيتطان قبرص وشبه جزيرة سيناء
إلا أنه جرى استبعادهما، واقتراح أوغندا بديلاً عنهما، ونجح هرتزل في أخذ الموافقة على ذلك في المؤتمر السادس للحركة الصهيونية عام ،1903 لكن المشروع فشل بسبب معارضة المستوطنين الإنكليز في أوغندا، ومعارضة المستوطنين اليهود، لأنها لم تحرك عواطفهم كما تحركها فلسطين التي ترتبط بتقاليدهم وطقوسهم كما يزعمون.

بعد وفاة هرتزل عقد المؤتمر الصهيوني السابع في آب 1905 تقرر فيه التخلي عن فكرة استعمار أوغندا، والعودة إلى مقررات مؤتمر بال الأول 1897 الذي حدد فلسطين هدفاً للاستيطان الصهيوني
وبدأ فعلاً، بتشجيع من المنظمات الصهيونية، السعي الحثيث لشراء الأراضي من الإقطاعيين الذين هاجروا وتركوا أرضهم لتقام عليها المستوطنات اليهودية وتشجيع الهجرة تجسيداً لقيام الكيان الغاصب..
وفي الوقت الذي قطعت فيه الحركة الصهيونية شوطاً كبيراً في كسب ود معظم الدول الكبرى، وعطفها على مساعدتها في إنشاء الوطن القومي اليهودي، كانت حركة الوعي العربي غافلة عما يجري تجاه النشاط الصهيوني في فلسطين، وإن كان قد برز في وقت مبكر بعض الأصوات التي تنبهت إلى هذا النشاط
فقد أثار بعض النواب في مجلس المبعوثان العثماني قضية شراء الأراضي من قبل اليهود في فلسطين، ولكنها كانت صرخة في واد، نتيجة عدم وجود قوة عربية منظمة تواجه هذا النشاط الذي تقوم به الحركة الصهيونية وارتباطها مع الدول الكبرى، ووقوع العرب تحت وطأة الحكم العثماني، وبالمقابل لم تكن الحركة الصهيونية بعيدة عن جس النبض والاتصال ببعض الزعماء العرب
وبالأخص بالملك عبدالعزيز آل سعود، واستجرار عطفه على اليهود الذي انتزع منه مندوب بريطانيا وثيقة بخط يده نصت على مايلي: (بسم الله الرحمن الرحمن.. أنا السلطان عبد العزيز عبد الرحمن آل الفيصل آل سعود، أقر وأعترف ألف مرة لسير بيرسي كوكس مندوب بريطانيا العظمى، لا مانع عندي من إعطاء فلسطين للمساكين اليهود أو غيرهم، كما تراه بريطانيا التي لا أخرج عن رأيها حتى تصيح الساعة).

بهذا الإقرار الواضح والصريح الذي قدمه مؤسس مملكة آل سعود بخط يده إلى مندوب بريطانيا، والذي كان قد سبق وعد بلفور بما لا يقل عن عقد من الزمن، فليس من الغريب أن تصل مساعي الحركة الصهيونية لدى بريطانيا أن تحصل منها على الوعد المشؤوم الذي قدمه وزير الخارجية البريطانية اللورد بلفور
إلى اللورد روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات بين زعماء الحركة الصهيونية والحكومة البريطانية الذي تضمن أن حكومة الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي يهودي في فلسطين
واقتناع بريطانيا بقدرة الصهاينة على تحقيق أهداف بريطانيا والحفاظ على مصالحها في المنطقة، وعُرض التصريح نفسه على الرئيس الأمريكي ولسون ووافق عليه قبل نشره، ووافقت عليه كل من فرنسا وإيطاليا، ونال الموافقة أيضاً من المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر سان ريمو
على أن يعهد إلى بريطانيا بالانتداب على فلسطين، وأن يوضع وعد بلفور موضع التنفيذ حسب ما ورد في المادة  الثانية من صك الانتداب. وبذلك يمكن القول إن وعد بلفور كان وعداً غربياً وليس بريطانياً فحسب.

 قوبل وعد بلفور من العرب باستغراب، واختلفت ردود الأفعال تجاه التصريح من مستنكر وغاضب إلى صامت، وسارعت بريطانيا إلى امتصاص حالة السخط والغضب بإرسال رسالة إلى الشريف حسين تؤكد فيها الحكومة البريطانية أنها لن تسمح بالاستيطان اليهودي في فلسطين، إلا بالقدر الذي يتفق ومصلحة السكان العرب من الناحيتين الاقتصادية والسياسية.

ومع الأسف كان الأمير فيصل نجل الشريف حسين يعرف بهذا الوعد وبالمخطط الصهيوني، لكن سكت عنهما، وفي لقائه مع حاييم وايزمن رئيس المنظمة الصهيونية الموثق في 3/1/1919 في لندن، تضمن إعطاء التسهيلات لليهود لإنشاء مجتمع التعايش في فلسطين والإقرار بوعد بلفور.

وبعد مرور مئة عام على صدور وعد بلفور، وقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ومن خلال الوثائق التي أشير إليها، نجد أن السلطان عبد الحميد الثاني كان أكثر حرصاً ودفاعاً عن ممتلكات الدولة العثمانية آنذاك بما فيها فلسطين، ورفض الانصياع لمطالب الصهاينة بالرغم من المغريات التي قدمت له
رغم الضائقة المالية الكبيرة التي كانت تعانيها السلطنة حينذاك، بينما حالة التفريط العربي الذي قدم للحركة الصهيونية على طبق من ذهب، والإقرار الذي قدمه عبد العزيز آل سعود الملك المؤسس للعربية السعودية، قبل مئة عام بخط يده الذي لا يحمل اللبس والغموض، والتفريط بالحق العربي إرضاء لبريطانيا
وعدم الخروج عن طاعتها حتى تصيح الساعة، ومازالت السعودية تسير على خطا مؤسسها تجاه الصهاينة، ولكن برضا للسيد الأمريكي وطاعته، وعملت من تحت الطاولة منذ ذلك التاريخ حتى بدأت الاتصالات والاتفاقات تظهر للعلن دون حياء أو خجل
ولم تكن الأسرة الهاشمية أفضل حالاً من سابقتها بدءاً من اتفاق فيصل- وايزمن وقيام المملكة الأردنية الهاشمية التي كانت تعتبرها بريطانيا قاعدة متقدمة لها لمراقبة البلدان المجاورة ولتدخل تحت عباءة الأمريكي من جديد ليمارس الدور التآمري في المنطقة.

ويبقى وعد بلفور هو وعد بإعطاء من لا يملك لمن لا يستحق، وبالتالي وإن اعتبره الصهاينة الأساس القانوني والاستناد إلى الوعد الإلهي المزعوم لقيام كيانهم الغاصب، إلا أنه لا يمكن القبول بهما، ويبقى شعب فلسطين هو صاحب الأرض، ومن حقه النضال من أجل استعادة هذا الحق بالعود إلى فلسطين الذي لا يسقط بالتقادم وإن طال الزمن.

 

العدد 1105 - 01/5/2024