دور الكلمة والفكرفي مواجهة الإرهاب

 في الوقت الذي كان الإرهاب يضرب ضربته في برج البراجنة في بيروت، كان مركز دراسات الوحدة العربية يعقد الجلسة الختامية لندوته الشاملة تحت عنوان (مستقبل التغيير في  الوطن العربي)، منتقلاً من تحديد مخاطر التفكيك وتحليله إلى الاستراتيجيات البديلة، انتهاء بمحاولة الإجابة عن السؤال المركزي: إلى أين؟ نحو خطة طريق للخروج من المأزق العربي).. وكأنه جاء لتأكيد أمرين:

الأول- أن هذا الأفق العربي مازال بخير رغم كل العراقيل والانسدادات.

الثاني- أن مكافحة الإرهاب يجب ألا تقتصر على الشق الأمني، رغم أهميته، وإنما يجب على النخب الثقافية أن تؤدي دورها بفعالية من الناحية الفكرية وتقدم الرد والعلاج عبر الكتاب والمطبوعة ووسائل التواصل الاجتماعي، وعبر التأثير في صياغة البرامج التربوية والثقافية.

معروف أن الجدل العام يبدأ دائماً في الدوائر الضيقة ثم يخرج بعد ذلك إلى الساحة العامة، وهذا ما حصل في بلاد كثيرة. إن هذا الجدل العام قد عرف العبور إلى الساحات العربية في القرن الماضي، لكنه اصطدم بعوائق التسطيح والتتفيه والتجهيل، ما أفسح المجال لانتشار الفكر الأصولي السلفي بمداه الأقصى الإرهابي التكفيري، وظهور بعض عوامل الإحباط والهزيمة القومية، خاصة بعد سحق الأقطار العربية، بدءاً من فلسطين وانتهاء بالعراق، وصولاً إلى التدمير والتخريب في بعض الدول العربية التي ضربها (طاعون الربيع العربي) بقوة لصالح ضياع الهوية، لتتشكل في مثل هذه الأجواء التي أوجدها سيكولوجية التوتر التي تحدث عنها أكثر من عالم اجتماع، مؤكدين أن الفرد يعيشها حتى ولو لم يعِها.

باختصار أدى هذا الربيع العربي الذي ضرب بعض الدول العربية منذ خمس سنوات إلى ظهور التعصب المجرم، وتكفير الآخر، وإلى فراغ الفكر، وفراغ الفكر هذا أدى إلى انعدام الحوار، وبالتالي إلى كراهية الآخر إلى حد تصفيته جسدياً كما تفعل داعش وجبهة النصرة وأخواتهما تحت عباءة الإسلام.. كذلك يؤدي غياب الحسّين الوطني والقومي إلى التفكك ولجوء الأفراد الذين يتمتعون بمستوى ضعيف من الوعي والثقافة إلى انتماءات تجزيئية يدمر واحدها الآخر أو إلى انتماءات انفلاشية تبحث في جمع الشراذم ويأتي من يوظف كل هذه الانتماءات في استراتيجيات وبرامج تفكيك الوطن العربي، ويصل الأمر بأصحاب هذه الانتماءات التجزيئية التي كان للدوائر الأمريكية والغربية والإسرائيلية الدور الأساسي في إيجادها ودعمها وتمكينها، إلى درجة الخروج على القيم الإنسانية وعلى الحياة نفسها عبر ارتكاب المجازر والجرائم الفظيعة وغير المسبوقة.

من هنا تأتي أهمية المؤسسات الثقافية التي يجب أن تقاوم كل ذلك، من خلال الحوار والعمل على بناء النموذج من جديد على قاعدة التآخي وقبول الآخر والثوابت الوطنية والقومية، مع  التركيز على الشباب. بالطبع كل هذا يتطلب تحضيراً جدياً مسبقاً، ويتطلب في الوقت نفسه تأمين الإمكانات المادية اللازمة للنشر والترجمة وإصدار الأبحاث العلمية الأصيلة والهادفة إلى تحصين الشباب ضد عمليات الغزو الفكري والثقافي المتواصلة من الغرب بشتى الوسائل والطرق التي تستهدف الأجيال العربية الشابة وتوجيهها بالاتجاه الذي يخدم استراتيجيات ومصالح الغرب وعملائه.

إن ما هو مطلوب من النخب الثقافية في المؤسسات الثقافية والتربوية في الدول العربية أن تمارس مسؤولياتها في التصدي لموجات التكفير والتفكيك، وذلك عبر التنوير والفكر والكلمة، علّها تستطيع إعادة التوازن لآلاف من مرضى النفوس ممن انخرطوا في هذه الانتماءات الشاذة، وفي الوقت نفسه للذين يرسلون التبرعات السخية للمنظمات الإرهابية التكفيرية التي ابتُليت بها بعض الدول العربية.

أخيراً، قد يقال إن الكلمة والفكر والحوار كلها لم تعد قادرة على مواجهة الإرهاب، وهذا ما يأتي في إطار التيئيس وتعميق دوافع الإحباط ومظاهره لدى الناس، ولا يخرج عن إطار الحرب النفسية الموجهة ضد العرب والتي يعمل بها وعليها مئات من مراكز الأبحاث ومن المتخصصين في مجال هذه الحروب النفسية المدمرة التي تستهدف زرع بذور اليأس في أذهان الناس، لكن من الماء ما يفيض وينحسر، ومنه ما ينسلّ بهدوء ويحفر أخاديده العميقة في جوف الأرض.

 

العدد 1105 - 01/5/2024