الأمريكيون ورثة الإنجليز في قيادة الجماعات السلفية

 كانت بريطانيا وفرنسا قد دعمتا خلال ثلاثينيات القرن العشرين نشوء الممالك والإمارات التابعة لهما في شبه الجزيرة العربية على قاعدة (الحماية مقابل الامتيازات والمصالح الاقتصادية والسياسية). وبعد مشروع مارشال استحوذت الولايات المتحدة الأمريكية – التي يعتقد بعض منظريها أنها أمة محاطة بالعناية الإلهية – على الحكومات الغربية مع أتباعها في شبه الجزيرة (مبدأ أيزنهاور) كما ورثت عن الإنجليز خبرتهم الفائقة في إدارة الحروب السرية، فحين خاطبهم الرئيس أيزنهاور قائلاً: نحن في حاجة إلى خطة مكيافيلية تساعد للوصول إلى شكل للشرق الأوسط يصب في مصلحتنا (كان يشدد على التحالف المقدس في وجه الشبح عن طريق نسج شبكة من العلاقات الاستخبارية تربط بين الأمريكيين وحكومات الغرب وعدد من الحكومات العربية وجماعات الإسلام السياسي، وقد سارع جون فوستر دالاس وزير خارجيته بالإيعاز لأخيه ألن فوستر دالاس رئيس وكالة المخابرات المركزية لتطوير خطط وليم دونوفان المعتمدة أساساً على استراتيجية وضعها برنارد لويس، المفكر الأمريكي المتخصص في الشؤون الإسلامية، وتعتمد على تشجيع الحركات الإسلامية في الدول العربية ودعمها، كسلاح ضد النفوذ السوفييتي، وكان في العام نفسه الذي تأسست فيه وكالة المخابرات المركزية 1947 قدم فيليب أيرلند السكرتير الأول للسفارة الأمريكية في مصر رشوة مالية كبيرة لحسن البنا، وصاغ معه الاتفاق على معاداة الشيوعية وحركات التحرر الوطني عموماً، ووافق حسن البنا.

وقد أكد صحة هذه المعلومة محمود عساف الذي شارك في اللقاء وكشف تفاصيله في كتابه (مع الإمام الشهيد حسن البنا) كما أكدتها الوثائق المفرج عنها من مكتب التحقيقات الفدرالية cia وبمساعدة هذه الوكالة حسب تلك الوثائق أوفد صهر حسن البنا (سعيد رمضان) وهو أحد رجاله الأوفياء لإنشاء فروع لتنظيم الإخوان المسلمين في كل من الأردن وسورية ولبنان والضفة وغزة وعدد من الدول الغربية، علماً بأن الالتباس واضح في الوثيقة المذكورة بخصوص مهمة سيد رمضان في تلك الدول، فهي على الأغلب كانت لتحديد وجهة تلك الفروع حسب تعليمات السيد الأمريكي، وذلك لأن هذه الفروع كانت موجودة أصلاً منذ ثلاثينيات القرن الماضي مثلاً في سورية عبر العائدين من دراسة الشريعة من مصر، وقد نظمها وأعلنها مصطفى السباعي (جماعة إخوان مسلمين) معادية للعلمانية والتيارين القومي والماركسي عام 1945.

وفي إطار الدعم وتوفير الغطاء السياسي رتب جون فوستر دالاس مؤتمراً عام 1953 في جامعة برينستون، حضره عدد من قادة الإخوان المسلمين من عدة دول عربية، ومع العلم بأن سورية لم تصبح شيوعية في أي يوم من الأيام، لكنها بقيت من أكثر دول منطقة الشرق الأوسط استهدافاً من قبل الحلف المقدس، إذ يؤكد محمد حسنين هيكل في مقارنة بين الموقفين المصري والسوري وردت في مقالاته في جريدة الأهرام بتاريخ 24/8/1957بعنوان (دالاس يقرع الطبول) هذه الحقيقة موضحاً سببها المباشر فيقول: (حين وجهت واشنطن تهمة الشيوعية لمصر وسورية،لم تفعل مصر إلا أن نفت عن نفسها التهمة بهدوء)، أما الجواب السوري فقد نقله هيكل عن لسان قائد الجيش السوري اللواء عفيف البزري واصفاً إياه (كانفجار اللغم)، حسب تعبيره فقد رد على سؤال: إنهم يتهمونك بالشيوعية؟ قائلاً: وليكن… ما هو شأنهم بذلك؟ ولماذا يتدخلون في صميم شؤوننا الداخلية؟ ويفسر هذا الجواب (القرار الوطني السوري المستقل) الذي تمسّك به تحالف البعث والشيوعيين السوريين كجزء أساسي من أسباب تركيز الحلف المقدس على الهدف السوري، كما أن الكثير من الوثائق المكشوفة تؤكده، منها على سبيل المثال ما كتبه هيكل أيضاً في الأهرام بتاريخ 16/9/1957 نقلاً عن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية (لنكولن هوايت) أن اهتمام الولايات المتحدة بالموقف في سورية واتجاهها إلى معالجته بالحزم والشدة يرجع إلى أن عدداً من جيران سورية العرب أبدوا للولايات المتحدة الأمريكية انزعاجهم الشديد من تطورات الأحداث في دمشق وطلبوا منها اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة الموقف (ومما يؤكد ذلك أيضاً المدى العملياتي على الأرض، فمحاولات إسقاط دمشق لم تتوقف حتى اليوم، بدءاً بتحريك الأسطول السادس الأمريكي باتجاه ميناء اللاذقية إلى المؤامرات المتتالية والموثقة والتي كان المال العربي شريكاً فيها، كما كان دور جماعة الإخوان المسلمين هو الأبرز في هذه المؤامرات.

وتتحدث وثيقة مارك كيرتس عن أن كان عميل المخابرات المركزية الأمريكية السابق (روبرت بيار) أكد أن الولايات المتحدة وافقت على تمويل السعودية لنشاط الإخوان و(في إطار التعاون بين الشركة الأمريكية للبترول (أرامكو) والسلطات السعودية قامت المخابرات الأمريكية برعاية تأسيس خلايا دينية في السعودية معادية لحركة القومية العربية) كما تتحدث الوثيقة عن رشاً قدمتها السعودية لضباط سوريين، لإسقاط طائرة الرئيس جمال عبد الناصر وكذلك لإسقاط الحكم الوطني في سورية (يمكن مراجعة كل التفاصيل المتعلقة بالمؤامرات على سورية والدول والشخصيات المشاركة فيها وحجم الأموال التي رصدت لها ومصدرها في كتاب (أوراق من دفتر الوطن.. 1946-1961) لسامي جمعة ضابط المخابرات السورية الذي كان مطلعاً على أدق تفاصيل تلك المؤامرات).

في الستينيات أسس الملك السعودي فيصل منظمة المؤتمر الإسلامي (1969) في إطار سعي واشنطن لحصار الشبح الأحمر، وكانت المخابرات الأمريكية قد نقلت عشرات ملايين الدولارات إلى سعيد رمضان الذي ترأس في مدينة ميونخ الشبكات الدولية للإخوان المسلمين وكتب دستورها، وكانت السلطات السويسرية تنظر بعين الرضا إلى أنشطته المعادية للشيوعية، وتؤكد الوثائق أنه كان عميلاً للبريطانيين والأمريكيين وكذلك ترد في الوثائق أسماء عملاء آخرين بارزين في الخلايا الإسلامية المتشكلة في أوربا ومنهم (أبو حمزة) و(أبو قتادة).

أواخر السبعينيات كان الأمريكيون يطلقون على الإرهابيين الإسلاميين العرب الذين أرسلتهم السعودية لقتال السوفييت في أفغانستان (المقاتلين من أجل الحرية) وكان عميل cia (قلب الدين حكمتيار) رئيس الحزب الإسلامي الأفغاني يرتب الاتصال بين عملاء cia وأسامة بن لادن في مركز الوكالة السري في مدينة بيشاور على الحدود الباكستانية الأفغانية، وكانت الوكالة تقوم بعمليات التمويل والتدريب والمد بالسلاح وحتى تسهيل تجارة المخدرات لبن لادن ورجاله، كما كانوا يتلقون التمويل أيضاً من الجمعيات الخيرية من الدول الخليجية كافة، وبعد خروج السوفييت وفي إشارة إلى استمرار العلاقات بين الحلفاء التقى عام 2001 وكيل المخابرات المركزية في الإمارات (لاري ميتشل) وبصحبته مسؤول كبير في المخابرات السعودية بن لادن في المشفى الأمريكي في دبي، وبقيت العلاقات مستمرة إلى أن انقلب السحر على الساحر في 11 أيلول 2001.

في الثمانينيات والتسعينيات وبعد النجاح الذي حققه الحلف المقدس بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في فرض هيمنته الاقتصادية والثقافية، وخاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، رسخ الإعلام في وعي الناس آفاق الحتمية التي نشرها فوكوياما بأن التاريخ انتهى بانتصار الرأسمالية وضرورة عولمة النموذج الغربي وترافق ذلك مع حتمية تحريضية أخرى لهانتنغتون أمّنت أن يحل صراع الحضارات محل الصراع الطبقي، ولم تلبث أن بدأت تشتعل نار الأحقاد الدينية والعرقية والإثنية وتمزق المجتمعات من داخلها وتفتت الدول، ويحتل المركز الرئيسي اليوم في هذا الصراع الإسلام السياسي، الأداة الغربية الأشد شراسة وعنفاً ووحشية.

المراجع:

 كتاب مارك كيرتس (العلاقات السرية – التحالف البريطاني مع الإسلام السلفي).

 مقالات محمد حسنين هيكل في الأهرام.

 كتاب جون برادوس (حروب الرؤساء السرية).

العدد 1105 - 01/5/2024