لماذا كان ماركس محقاً؟! (37)

 في الماركسية، لاشيء تجاوزه الزمن أكثر من الإصرار على فكرة الطبقات. ويبدو أن الماركسيين لم يلاحظوا أن طبيعة طبقات المجتمع، منذ أيام ماركس حتى يومنا هذا، قد تغيّرت بشكل لا يمكن الإحاطة به، وخصوصاً أن طبقة العمال التي حلموا بأنها ستنقلُ البشرية إلى رحاب الاشتراكية، لم يعُد لها أثر يُذكر. فنحن نعيش الآن في مجتمع تلعب فيه الطبقة دوراً جدّ ضئيل، لأنه في حركة دائبة، كما أصبح فيه النداء إلى صراع الطبقات أمراً مستغرباً، كالدعوة إلى إحراق الهراطقة فوق كومة من الحطب. فالعاملُ الثوريّ، وكذلك الرأسماليّ ذو القبّعة الأنيقة، ليسا سوى وليدي خيال كارل ماركس.

رأينا أن الماركسيين يعانون مشكلات مع مفهوم الطوباويّة، وهذا هو أحد الأسباب التي تمنعهم من القول بأن مجتمع الطبقات قد أصبح من الماضي، فقط لأن بعض رؤساء مجالس الإدارة يتجوّلون أحياناً بأحذيتهم الرياضية، ويسمعون الموسيقا الصاخبة، ويتباسطون في الحديث إلى أقصى درجة مع موظَّفيهم. فالماركسية لا تعرِّف مفهوم الطبقة بالاستناد إلى أسلوب الحديث أو الوضع العائلي أو الدخل أو المهنة أو نوع اللوحات المعلَّقة على الجدران. ولم يكافح الاشتراكيون من رجال ونساء طيلة قرون ولم يموتوا في أحيان كثيرة من أجل إلغاء القَنْزَحَة.

يبدو أن المفهوم الأمريكي classism، (ويقصد منه الإهانة بالاستناد إلى الانتماء الطبقي، إضافة من المترجم) يشرحُ بوضوح أن مفهوم الطبقة أساساً هو مسألة موقف ووجهة نظر. وبعد ذلك، ليس على الطبقة الوسطى البرجوازية سوى أن تكفّ عن احتقار طبقة العمال، كما على البيض أن يتغلّبوا على ازدرائهم للأمريكان من أصل إفريقي. أما في الماركسية، فلا يتعلّق الأمر بموقف أو وجهة نظر. ليست الطبقة في الماركسية كالفضيلة عند أرسطو مسألة شعور، بل مسألة فعل. ويتعلّق الأمر عندئذ بالمكانة التي يحتلّها الإنسان في طريقة الإنتاج. هل هي مكانة العبد أو الفلاح المستقل أو مستأجر الأرض أو صاحب (الرأسمال) أو المانح أو بائع قوّة عمله أو المالك الصغير إلخ….؟، ولم تصبح الماركسية عتيقة، لأن خرّيجي معهد (إيتون) لم يعودوا يستخدمون تعابير مبهمة للتعريف عن أنفسهم، أو لأن أمراء القصر الملكي يتقيؤون في قارعة الطريق أمام النوادي الليلية، أو لأن بعض أشكال الفروق الطبقية الأقدم لم تعد تصمد أمام المساواة النقدية العالمية. كما يمكن للأرستقراطية الأوربية أن تحصد الامتنان على تعاملها الودّي مع  Mick Jagger(مغنٍّ بريطاني ومؤلِّف أغانٍ، إضافة من المترجم)، إلا أن ذلك لم يجعلنا نتقدم خطوة واحدة باتجاه المجتمع الذي لا يعرف الطبقات.

لقد سمعنا الكثير عن الاختفاء المزعوم للطبقة العاملة. لكن قبل أن نعود إلى مناقشة هذا الادّعاء، نطرح السؤال عن أمرٍ لا يلقى عادة اهتماما كبيراً، وهو انهيار الشريحة العليا من الطبقة الوسطى. وكما يلاحظ بيري أندرسون فقد انقرض تقريباً رجال ونساء من أمثال الشخصيات التي وصفها مارسيل بروست وتوماس مان بشكل لا يُنسى. وعلى العموم أصبحت الطبقة الوسطى، كما عرفها بودلير أو ماركس أو إبسن أو رامبو أو غروس أو بريخت أو حتى سارتر أو أوهارا جزءا من الماضي.. ومع ذلك، على الاشتراكيين ألا يهلّلوا لهذه النعية بصوت مرتفع، لأن أندرسون يتابع قوله:

(لقد حلَّت محلّ ذلك السلَّم التراتبي الثابت أشكال عديدة من المهن المتداخلة وغير الثابتة من مخطِّطٍ ومديرٍ ومدقّق حسابات وآذن وطاقم إدارة ومُضارب، ممَّن يعمل في خدمة الرأسمال الحديث: وهي وظائف في عالم المال الذي لم يعد يعترف بأكابر المجتمع أو الهويات الموثوقة).

من طبيعة الرأسمالية أنها تُزيل الفروق وتحطِّم التراتبيّة وتخلط طرق العيش المختلفة بشكل كامل. لا يوجد طريقة عيش أكثر اختلاطاً وتعدداً. لكن عند السؤال عمَّن يجب استغلاله الآن، يبرهن النظام الرأسمالي على أنه من محبّي المساواة بشكل يدعو للعجب، فهو يكره التراتبية كالمطلع الورع على أسرار ما بعد الحداثة، ذو قلب كبير يتَّسع للجميع كقسّيس مساعد أنكليكالي، يجتهد في عدم استثناء أحد، ويرحِّب بالجميع، حيث يحقق الربح: بالأسود والأبيض، بالطفل والعجوز، من سكان الحيّ الفخم(( Wakefield) أو سكان قرية فقيرة في سومطرة، ليطحنهم في طاحونته دون أية أحكام مسبقة إطلاقاً. فالقولبة على شكل بضائع هي التي تحقق أكبر مساواة، وليست الاشتراكية. ولا يهم البضاعة المدرسة التي تعلَّم فيها مستهلكُها المحتمل أو ما إذا كان حسيباً عريق الأصل أم لا. والبضاعة هي التي ترغم الناس على نوع من التشابه الذي عارضه ماركس بشدّة، كما رأينا سابقاً.

من المفروض ألا نفاجأ بأن الرأسمالية المتقدّمة تشيع وهم اختفاء الطبقات. وهذا ليس فقط واجهة يخبّئ النظام خلفها عدم المساواة الحقيقية الكامنة فيه، فهذا من طبيعة الأمور. لكن، هناك تناقض صارخ بين التعامل اللطيف في المكاتب الحديثة، ونظامٍ كوني يزداد فيه عمق الخندق بين الفقير والغني، أكثر من أيّ وقت مضى. من الممكن أن تحلّ مؤسسة لا مركزية، غنية بالمعلومات، وتراعي أصول العمل الجماعي، محلَّ التراتبية التقليدية في بعض الفروع الاقتصادية، إلا أن ذلك لا يُخفي أن الرأسمال يتمركز في أيدٍ قليلة أكثر من الماضي، وأن عدد الناس المعدمين والمُفقرين يزداد في كل ساعة. وبينما يلبس رئيس مجلس الإدارة بنطال الجينز فوق (بوط الرياضة)، يعاني يومياً أكثر من مليار إنسان من سكان كوكبنا من الجوع. والمدن الكبيرة في الجزء الجنوبي من الأرض ليست سوى جحور نتنة مكتظّة بالسكان تترعرع فيها الأوبئة والأمراض.

ويشكّل سكان هذه الأحياء الفقيرة ثلث سكان المدن على مستوى العالم، بينما يشكل سكان المدن الذين يعيشون تحت خط الفقر نصف سكان العالم. وفي هذه الأثناء يحاول بعض المتحمّسين حماس المبشّرين في الغرب توطين الديمقراطية الليبرالية في باقي أرجاء العالم، وذلك في زمنٍ يتعلّق فيه مصير العالم بحفنةٍ قليلة من الشركات الموجودة في الغرب والتي لا همَّ لها سوى إرضاء مساهميها.

ومع ذلك، ليس الماركسيون ضد طبقة الرأسماليين، كمن يمكن أن يكون ضد الصيد أو التدخين. فكما رأينا، لم يُكبر أحد مثل ماركس منجزات الرأسمالية الرائعة. كانت هذه المنجزات برأيه ضرورية لخلق الاشتراكية: مقاومة عنيدة ضد الاستبداد السياسي، مراكمة هائلة للرأسمال واعدة برخاء عالمي، احترام الفرد، احترام حقوق المواطن واحترام الديمقراطية، تضافر عالمي حقيقي، إلخ…، وكان المقصودُ الاستفادة من تاريخ الطبقات، وليس فقط نبذها. وكما أوضحنا، لم يكن النظام الرأسمالي قوّة هدّامة فقط، بل كان أيضاً قوّة تحرّرية. وتسعى الماركسية أكثر من أي نظريّة أخرى أن تنظر إلى الرأسمالية دون أيّ تحيّز، وذلك على عكس المدائح الفارغة من الطرف الأول واللعنات المبالغ فيها من الطرف الآخر.

 تُعتبر الطبقة العاملة من الهدايا الرائعة التي أعطتها الرأسمالية للعالم، من دون قصد، وهي قوّة اجتماعية لا يستهان بها تكافحُ بصلابة من أجل حقوقها لدرجة أنها قادرة على استلام السلطة، من حيث المبدأ. وهذا أحد الأسباب التي جعلت لبَّ فهم ماركس للتاريخ ساخراً، إذ لا يخلو الأمر من فكاهةٍ مرّة أن يلد النظامُ الرأسمالي حفّار قبره.

لا تركّز الماركسية على الطبقة العاملة لأنها تعتبر العمل شيئاً فاضلاً. فاللصوص وأصحاب المصارف يُجهدون أنفسهم أيضاً، إلا أن ماركس لم يهتم بهم، كما هو معروف. (علماً أنه كتب مرّة عن اقتحام أحد اللصوص لبيت مّا، فكانت قصة رائعة سخرت من نظرية الاقتصاد التي وضعها بنفسه). لقد رأينا أن الماركسية تريد إلغاء العمل قدر الإمكان، ولم تُعر للطبقة العاملة تلك الأهمية الخاصة، لأنها كانت ربّما المجموعة الاجتماعية المظلومة أكثر من غيرها فقط. فهناك العديد من المجموعات الاجتماعية المظلومة التي ربّما تعاني من العوز أكثر من أي عامل متوسط من مهاجرين ولاجئين وطلاب وكبار في السن وعاطلين عن العمل – وفاقدي الأمل في أيّ فرصة عمل. ولا ينسى الماركسيون الطبقة العاملة في اللحظة التي يحصل فيها العمال على بيوت تحتوي على حمّامات ونوافذ ذات زجاج ملوّن. المهمُّ في الماركسيّة هو أكثر من ذلك بكثير، وهو أن هذه الطبقة تحتل موقعاً مركزياً في طريقة الإنتاج الرأسمالية. فلا أحد يستطيع استلام قيادة هذا النظام لصالح الجميع سوى أولئك العاملين فيه، العارفين مجراه، المؤهَّلين  والمنظّمين في قوّةٍ جماعية واعيةٍ سياسياً، لا يمكن التخلّي عنهم لضمان سلامة أدائه، ولهم مصلحة مادّية حقيقية في تغييره. فلا أيّ بطركٍ خيِّرٍ ولا أي نشطاء من خارج النظام يستطيعون القيام بذلك من أجلهم، مما ينجم عنه أن اهتمام ماركس بالطبقة العاملة، وهذه كانت الغالبية العظمى من الشعب في أيامه، مرتبط ارتباطاً وثيقاً باحترامه العميق للديمقراطية.

أعطى ماركس الطبقة العاملة تلك الأهمية القصوى لأنه رأى فيها، من بين أمور أخرى، حامل لواء التحرّر العالمي، وهو يقول في هذا المجال:

إن تشكيل طبقةٍ ذات قيود راديكالية، طبقةٍ وسطى، وهي ليست طبقة وسطى، بل تعني إلغاء جميع الطبقات، طبقة تملك طابعا عالمياً بسبب آلامها العالمية، وليس لها حقٌّ خاص، لأنها لا تتعرّض لألم خاص، وإنما تُرتكب بحقها الآلامُ كلُّها، إن تشكيل هذه الطبقة لا يتحدّى التاريخ، وإنما الإنسان فقط، وبكلمة واحدة إنه ضياعُ الإنسان والاسترجاع الكامل للإنسان. إنه انحلال المجتمع في طبقة خاصة هي البروليتاريا.

 

تأليف: تيري إيغلتون

العدد 1105 - 01/5/2024