سبينوزا… ملعوناً ومطروداً!

بنى اليهود أول كنيس لهم في أمستردام في هولندا عام ،1598 ثم بنوا كنيساً آخر بعد خمس وسبعين سنة، ساعدهم على ذلك جيرانهم المسيحيون. في منتصف القرن السابع عشر احتدم الجدل داخل الكنيس عندما هاجم اليهودي (أوريال كوستا) الاعتقاد باليوم الآخر. وقام الكنيس بإرغامه على التراجع عن أقواله،ومعنى التراجع أن يستلقي الكاتب مقابل عتبة الكنيس ويمر المصلون من فوقه لإذلاله. ولكن أوريال رفض التراجع عن أقواله، وأطلق الرصاص على نفسه. حدث هذا الأمر عام 1640 عندما كان سبينوزا طفلاً في الثامنة من عمره، وهو المدلل في الكنيس.

تأثر سبينوزا بمفكرين يهود كبار من أمثال ابن ميمون، الذي قال بأن الخلود لا يتعلق بالأشخاص، وليفي بن جيرسون القائل بأبدية العالم، وحسداي بن شبروت الذي يرى أن الكون هو جسم الله، ووجد في كتاب إرشاد الحائر للقرطبي حيرة أكثر من الإرشاد.

إن سبينوزا فيلسوف موسوعي نهم للمعرفة، قرأ تاريخ الفلسفة بعقلية مبدعة منفتحة. فهو لم يتصالح مع واقعه، لذلك جاءت أفكاره كالصاعقة على أولئك الذين تمترسوا خلف أيديولوجيات عفنة ليطمسوا الحقيقة. ولكن مع وجود فيلسوف كبير كسبينوزا لابد لليل أن ينجلي وللحقيقة أن تسطع.

استُدعي سبينوزا عام 1656 ليمثل أمام كبار رجال الكنيس اليهودي بتهمة الهرطقة. وجاء السؤال صاعقاً: هل صحيح أنك قلت إن الله جسد، وإن الملائكة مجرد هذيانات، وإن التوراة لا تقول بخلود النفس؟! لا تذكر كتب التاريخ إجابة سبينوزا، ولكن ما نعرفه أنه لم يتراجع عن أفكاره، والكنيس لم يتراجع عن تكفيره، وصدر الفرمان التالي:

يعلن رؤساء المجلس الملي اليهودي بعد أن تبينت لهم تماماً حقيقة آراء باروخ سبينوزا وأعماله الآثمة، وبعد أن حاولوا بمختلف الوسائل وشتى الوعود إرجاعه عن غيه وضلاله، أنهم قد فشلوا في تقويمه وإبعاده عن آرائه وأفكاره وأنه تمادى في غيه وضلاله. وإنهم ترد إليهم كل يوم الشهادات الكثيرة عن هرطقته وبدعه الدينية المريعة التي يقدمها ويجاهر بها، وإن الكثيرين من ذوي القدر والمكانة يشهدون على ذلك  ويتهمونه بما ذكرناه من التهم بحضور سبينوزا. وقد عرضت القضية وبسطت أمام رؤساء المجلس الملي، وتم القرار بموافقة أعضاء المجلس على إنزال اللعنة والحرمان بالمدعو سبينوزا وفصله عن شعب إسرائيل. وإنزال الحرم به من هذه اللحظة مع اللعنات الآتية: بقرار الملائكة وحكم القديسين نحرم ونلعن وننبذ ونصب دعاءنا على باروخ سبينوزا، بموافقة الطائفة المقدسة كلها، وفي وجود الكتب المقدسة ذات الستمئة والثلاثة عشر ناموساً المكتوبة بها، نصبُّ عليه اللعنة وجميع اللعنات المدونة في سِفْر الشريعة، وليكن مغضوباً وملعوناً، نهاراً وليلاً، في نومه وصبحه،في ذهابه وإيابه،خروجه ودخوله. ونرجو الله أن لا يشمله بعفوه أبداً، وأن ينزل عليه غضب الله وسخطه دائماً، ويحمله جميع اللعنات المدونة في سفر الشريعة. ونسأل الله أن يخلص أولي الطاعة منكم وينقذهم، وأن لا يتحدث معه أحد بكلمة أو يتصل به كتابة، وأن لا يقدم له أحد مساعدة أو معروفاً، وأن لا يعيش أحد معه تحت سقف واحد، وأن لا يقترب أحد منه على مسافة أربع أذرع، وأن لا يقرأ أحد شيئاً جرى به قلمه أو أملاه لسانه.

ماذا يفعل سبينوزا؟ هل يقدم تنازلاً؟ هل يستمر بمشروعه الفكري الذي وهبه نفسه؟ المسألة إذاً في غاية التعقيد. لقد اختار الطريق الأصعب، طريق تحدي الكنيس، وتصالح مع عذاباته. ولولا هذه العذابات المقدسة لما تقدم التاريخ. على أية حال، وجد سبينوزا نفسه وحيداً، إذ طرده والده الذي عول على أن يصبح ابنه رجل دين، واحتالت عليه أخته لانتزاع حقه في الميراث، وتجنبه أصدقاؤه.

عاش سبينوزا وحيداً ومات عظيماً، إذ ضرب مثلاً على ذلك الفيلسوف الذي يعيش من أجل أن يقدم شيئاً جديداً للبشر، ويموت دفاعاً عن مبادئه دون تشكٍّ أو طلب أي شيء من الآخرين. يقول: إن الطبيعة يرضيها القليل، و أنا يرضيني القليل.

لم ينشر كتاب الأخلاق لسبينوزا إلابعد موته في عام ،1677 ويعدُّ هذا الكتاب من روائع الفلسفة الحديثة. وقد كُتب بطريقة هندسية من أجل تبسيط أفكاره. ولكن النتيجة كانت على عكس ما أراد، فكل فقرة تحتاج إلى شرح وتوضيح وتعليق. إليكم أهم أفكار الكتاب:

يقول سبينوزا: إذا أردتم أن تبحثوا عن جسد الله فهو العالم، وإذا أردتم أن تبحثوا عن روح الله فهي قوانين العالم. إن كل الأشياء تنشأ من طبيعة الله اللانهائية، كما ينشأ من طبيعة المثلث أن زواياه الثلاث تساوي قائمتين، وأن الله بالنسبة إلى العالم كقوانين الدوائر بالنسبة إلى الدوائر كلها. فالله هو السلسلة السببية، الكامن وراء كل الأشياء، وهو قانون تركيب العالم.

خالف سبينوزا ديكارت، فديكارت يقول بوجود جوهرين: المادة والفكر، وهما جوهران مهما امتدَّا لا يلتقيان. ولكن سبينوزا يرى أن هناك جوهراً واحداً يحمل عليه صفتين: الفكر والمادة. لقد أصبحت جواهر ديكارت مجرد صفات عند سبينوزا. بكلمة واحدة، إن إرادة الله وقوانين الطبيعة اسمان يطلقان على حقيقة واحدة، ويتبع ذلك أن الأحداث ما هي إلا نتيجة آلية لقوانين الطبيعة الثابتة، وليست نزوة من نزوات حاكم مطلق يجلس في النجوم.

إن العالم جبري، مُسيَّر وفق سببية صارمة، وصولاً إلى العلة الأولى، علة العلل. كما أن الله مُسيَّر، فالله لا يستطيع أن يفعل بالعالم كما يشاء، وإنما يفعل من خلال جملة قوانين.

يتجاوز سبينوزا أفلاطون، الذي اعتقد بأن الجمال هو الوجه الآخر للخير، أي قانون الوجود. يقول سبينوزا: إنني لا أعزو للطبيعة جمالاً أو قبحاً ولا نظاماً أو اضطراباً. والأشياء توصف بالجمال أو القبح والنظام أو عدمه فقط، بالنسبة إلى مداركنا وتصورنا فقط. فإن كانت الحركة التي تستقبلها الأعصاب من الأشياء التي أمامنا بواسطة العين باعثة للصحة فإنها تسمى جميلة، وإذا لم تكن كذلك تسمى قبيحة.

يرفض سبينوزا أن يكون الله شخصاً، بصورة المذكر الذي يعبر عن تبعية المرأة للرجل. كما يرفض أن يكون الله بصراً أو سمعاً أو….. وإن الله أعظم كمالاً، لو استطاع المثلث أن يتكلم لقال: إن الله مثلثي في أضلاعه، و لقالت الدائرة إن طبيعة الله دائرية في سموها، فكل شيء يخلع صفاته الخاصة على الله.

ما هو العقل؟ ما هي الإرادة؟ يقلل سبينوزا من الفارق بينهما. فكل غريزة إرادة، وهي خطة ارتقت بها الطبيعة للمحافظة على بقاء الفرد. يترتب على ذلك أن الإنسان ليس إرادة حرة، لأن ضرورة البقاء تقرر الغريزة، والغريزة تقرر الرغبة، والرغبة تقرر الفكر والعمل، و قرارات العقل ليست سوى رغبات، وليس في العقل إرادة مطلقة، لأن هذه الفكرة يسيِّرها سبب آخر خارجها، وهكذا  إلى ما لانهاية، فالبشر يجهلون ما يسيِّرهم لذلك يظنون أنفسهم أحراراً.

فالحجر المقذوف في الفضاء لو وهب شعوراً لظن أثناء رميه أنه يقرر مسار قذفه، ويختار المكان والوقت الذي يسقط فيه على الأرض.

إن عقيدتنا بالجبر تُصلح حياتنا الأخلاقية، وتعلمنا أن لا نكره أو نسخر أو نغضب من أحد. وعلينا أن نكون أكثر رحمة في معاقبة الأشرار، لأنهم لا يعلمون ما يفعلون.

فالجبرية تقوينا على احتمال هموم الحياة، وتقبل قوانين الطبيعة بسرور. وهنا يرتفع الإنسان من لذات العواطف المتقلبة إلى صفاء الفكر والتأمل الرفيع الذي يرجع جميع الأشياء إلى قوانين خالدة.

أخيراً يعجز اللسان عن القول بعد قول الفيلسوف الألماني العظيم هيغل بسبينوزا: من أراد أن يكون فيلسوفاً ينبغي أن يقرأ سبينوزا أولاً.

العدد 1105 - 01/5/2024