اللَّبنة الأولى في اقتصادنا الوطني

 يتيح التعليم المهني لطلابه إلى جانب المعارف النَّظرية والثَّقافة العامة، مهاراتٍ يدويةً ثمينةً تساعدهم على امتلاك مفاتيح فرص العمل، وقد أدركت الدُّول الصِّناعية الأولى في العالم أن تطوُّرها قائمٌ على الاعتماد على خريجي تلك المدارس المهنية بمختلف اختصاصاتها، فاهتمت بتطوير وسائل هذا التعليم وتقنياته، بما يتناسب وتطوُّر سوق العمل، أما في سورية فقد تعرَّض التعليم المهني لتقلُّباتٍ عدَّة، فمنذ الاستقلال حتى عام 1986 ظلّ مقتصراً على 10% من حملة الشَّهادة الإعدادية، ثم رُفعت النسبة فجأة إلى 70% وجرى تخفيضها لاحقاً إلى 50% ثم 40% وبعد ذلك 30%.

هذا التراجع الواضح في نسب القبول يوضِّح أنه ما من خطةٍ جادة للتعامل معه ومع خريجيه لدى المسؤولين، مما ساهم في تعميق نظرة المجتمع عامةً أن التعليم المهني هو من نصيب الفاشلين دراسياً الذين لم يتمكنوا من تحصيل علاماتٍ عاليةٍ تؤهِّلهم للدُّخول في التَّعليم الثَّانوي العام، دون النَّظر إلى الموهبة أو الرَّغبة، وخير مثال ما حصل مع فتاةٍ فضَّلت دراسة الثانوية التِّجارية بعد الصف التَّاسع علماً أنها حقَّقت معدلاً يتيح لها التسجيل في الثانوية العامة، إلاّ أن مدير المدرسة التجارية آنذاك استهجن الفكرة وحاول إقناعها بعدم الدِّراسة التِّجارية والالتحاق بالثانوية العامة، وحينما أصرَّت على موقفها صارت حديث الجميع واستغرابهم وبضمنهم بعض أهلها الذين شكَّكوا بعلاماتها في الشهادة الإعدادية.

هذا الرأي العام هو ناتج واقع ما بعد الدِّراسة، إذ لم يحظَ خريجو تلك المدارس بفرصهم الحقيقية في العمل بعد الحصول على الشَّهادة، ولهذا يعترض الأهل، ويعزِّز هذا الاعتراض تصريح معاون وزير التَّربية للتَّعليم المهني الدكتور سعيد خراساني في لقاءٍ معه عام 2015 بقوله:

(جملةٌ من الصعوبات تعتري التَّعليم المهني والتِّقني، فقد أدّى تعدّد الجهات المسؤولة وعدم وجود إدارة موحّدة للإشراف وتماثل المهن والاختصاصات في الوزارات إلى عدم تنفيذ أية إستراتيجية موحّدة، إضافة إلى ضعف التَّنسيق المشترك بما يخدم احتياجات سوق العمل، وقلَّة الموارد المخصَّصة للتَّدريب وإعادة تأهيل وتحفيز المدرِّسين والمدرِّبين مادياَ ومعنوياً وتطوير البحث وإعداد المناهج، وعدم كفاية الخريجين، ما يؤدّي إلى عدم اجتذاب الاستثمارات، فالعلاقة بين النِّظام التعليمي والمؤسسات متباعدةٌ ومقطوعةٌ أحياناً، لاسيما أن أهدافهم وطرائق عملهم مختلفة، ما يشكل عبئاً إضافياً على نظام التَّعليم المزدوج، وعدم وجود نظام يسمح بالانتقال من المؤسَّسات التَّعليمية إلى المؤسَّسات الاقتصادية وبالعكس).

لكنَّه يناقض ما سبق بقوله:

(القدرات والطاقات المتوفرة في نظام التَّعليم المهني الحالي تمكّنه من القيام بعملياتٍ إنتاجيةٍ تساعد على ربط التَّعليم والتَّدريب والإنتاج والحصول على موارد، فتوفُّر الكفاءات والإمكانات في نظام التَّعليم التِّقني يساهم في رفع مستوى الأداء لتعديل التَّشريعات الخاصة بذلك).

هذا التَّناقض في كلام معاون الوزير هو لبُّ المشكلة وجوهرها، فالجزء الأول يُشرِّح الواقع، بينما الثاني بمثابة تصريحٍ إعلاميٍّ مفروض للتَّرويج لهذا التَّعليم دون امتلاك القدرة على اتخاذ القرارات التي تُمكّن الطلاب أن يكونوا لبنة هامة وعلمية في عملية البناء والنهضة الاقتصادية، ودون اهتمامٍ فعَّالٍ بالبنية التحتية لتلك المؤسَّسات التَّعليمية كبدايةٍ لإنتاج اللّبنات قوية الأساس التي إن وضعت في مكانها الصحيح ساهمت في بناءٍ اقتصاديٍّ متكاملٍ يُحوّل بلدنا من مستهلكٍ مستقبلٍ لكل ما يأتيه إلى بلدٍ يمتلك كل المؤهِّلات البشرية الطَّامحة لمنح طاقاتها وإمكانياتها لتتحوَّل نتاجاً واقتصاداً فعَّالاً في البناء والنُّهوض الاقتصادي، فإن أيقنت الوزارات المعنيَّة وبوعيٍ كاملٍ بأهمية هذا النَّوع من التَّعليم، وعملت على تمكينه بشكل جدي سيتفهَّم المجتمع برمَّته معنى هذا التَّعليم وفعاليته، وسيتلاشى الخوف من الغموض وضياع مستقبل أبنائه.

العدد 1105 - 01/5/2024