في الذكرى الستين لرحيل محمد كرد علي

كما يُفتقَد البدر في الليلة الظلماء كذلك تتذكر الأوطان رجالها الذين كانوا جزءاً من نهضتها ولم يدخروا جهداً في تطويرها ودفعها نحو مسايرة ركب الحضارة في العالم. وربما تكون استعادة هذه الشخصيات من الأمور الملحة في زمن تخفت فيه أصوات الكتاب والمثقفين وتتلاشى، وتنوب عنها أصوات رنانة رغم جهل أصحابها وتلقى أصداء بالشارع رغم مضمونها الرجعي ، فبعد ستين سنة على رحيل العلامة محمد كرد علي لا تزال ذكراه حاضرة لا كنوع من التكريم فحسب بل لحاجة الوطن إلى مثقفين بمثل إخلاصه وغزارة إنتاجه وسعة علمه.

كانت الفترة التي نضج فيها محمد كرد علي هي ما سُمِّي بفترة النهضة العربية التي شهدت ظهور كتاب وموسوعيين، مثل سليمان البستاني وناصيف وإبراهيم اليازجي وفرح أنطون وفرانسيس المراش. وكان للصحافة دور كبير في نشر الأفكار الإصلاحية في تلك الفترة، فكان محمد كرد علي محرراً في أول صحيفة تصدر في دمشق، وكانت تسمى جريدة (الشام). وقد عمل في مجال الصحافة متنقلاً بين دمشق وبيروت والقاهرة، حتى سافر إلى باريس وتعرَّف على الحالة الحضارية والفكرية التي كانت تعيشها المدينة، ساعده على ذلك إتقانه للغة الفرنسية وتمكنه منها.

لكن موقفه من التقدم والسبق الحضاري الذي رآه في فرنسا لم يتوقف عند الإعجاب والتحسر وحسب، بل اقتبس منه ما يمكن تطبيقه في سورية عسى أن تعطي عجلة التطور الزخم المطلوب. وقد تحقق له ما أراد عندما وافق الحاكم العسكري لسورية رضا باشا الركابي على تأسيس المجمع العلمي في دمشق سنة 1919. وقد ظل محمد كرد علي رئيساً للمجمع المذكور لفترة طويلة جاعلاً من المجمع المذكور منبراً للعلماء والمفكرين لطرح مشاريعهم وأطروحاتهم. وكان نصيبه هو نحو62 محاضرة في جميع المجالات العلمية والفكرية. كما أسس في المجمع داراً للآثار، هي نواة المتحف الحالي. كما أسس داراً للكتب تحوي الكثير من المخطوطات والكتب النادرة، وكانت رديفاً للمكتبة الظاهرية التي أسسها أستاذه الشيخ طاهر الجزائري.

تسلم محمد كرد علي وزارة المعارف أكثر من مرة في فترة الانتداب الفرنسي، كان يدعو فيها للنهوض بالمؤسسات التعليمية، وبحق المرأة بالتعليم، وبأفضلية المعلمات على المعلمين لتدريس الصفوف الابتدائية. وعندما استلم وزارة المعارف في حكومة الشيخ تاج الدين الحسني اعتُمد نظام البكالوريا في سورية بالتنسيق مع الفرنسيين، كما أسس المدرسة العليا للآداب في الجامعة السورية التي توقفت بعد خمس سنوات لأسباب مالية. وكان في تلك الفترة لا يتوقف عن الكتابة، وعن إدارة المجمع العلمي. بل كان إضافة إلى ذلك عضواً في مجمع القاهرة اللغوي الذي كان له الفضل في إنشائه.

و من أهم مؤلفاته كتاب (خطط الشام) في ستة أجزاء الذي ظهر سنة ،1925 وكان قد أمضى زهاء ثلاثين سنة في تحضيره، قرأ خلالها نحو 1200 مجلد، كذلك كتاب (غوطة دمشق) سنة ،1949 ونحو 12 كتاباً آخر. إضافة إلى نحو 400 مقالة متعددة الموضوعات. أما آراؤه الإصلاحية، وخاصة في مجال المرأة، فمنهم من براها ضعيفة لم تخرج عن الصورة التي وضعها الإسلام للمرأة، ومنهم من برى أنه قد ركب موجة (المضلّ) قاسم أمين، ودعا إلى سفور المرأة وإلى مساواتها بالرجل. وهذا التيار الديني المحافظ يعيب عليه أيضاً تفضيله العقل على النقل عند تعارض الإسلام مع العلوم المادية المعاصرة، كذلك تفضيله مذهب المعتزلة على سائر المذاهب. وهذا الخلاف المثار حوله هو ظاهرة ثقافية صحية في أي مجتمع يسعى للخروج من حالة الركود التي يعيشها، وهو ما دعا إليه مراراً العلامة الذي كان همه الوحيد هو النهوض بالآمة نحو الأفضل.

توفي محمد كرد علي في دمشق في 2 نيسان سنة 1953 عن عمر يناهز ال 77 عاماً.

العدد 1105 - 01/5/2024