مافيا الاتحاد الأوربي

أزمة دين عام (دين الدولة) في اليونان، أزمات أخرى تلوح في الأفق في بلدان أوربية أخرى. انهيارات في سوق الأسهم في الصين وغيرها من مراكز الرأسمالية العالمية في آسيا الشرقية. بالطبع الأزمة في الوطن العربي تتجاوز في حدتها الأزمات الأخرى، هي حرب أهلية عربية، لكن بدايتها في الميادين دليل على أزمة في أكثر مناطق الرأسمالية ضعفاً.

لا ننسى أزمة الطبقة الرأسمالية العليا في لبنان، والتي احتفلت بها هذه الطبقة منذ أسبوع، احتفالاً انتحارياً يشبه احتفالات المدن الفينيقية القديمة.

هي أزمة عالمية للرأسمالية، لا يمكن إلا أن تكون عالمية، خاصة أن دعاة الرأسمالية حدّثونا على مدى العقود الماضية عن العولمة ومحاسنها ومفاتنها وميزاتها الإيجابية على كل البشرية. عالمية الرأسمالية المعولمة اعتبروها طبيعة بشرية. لم يتحدّثوا عن تزايد الأعداد البشرية التي لم تعد تتحملها (بيئة) الأرض. ولم يتحدثوا عن تزايد البطالة والفقر والهجرة مع انتشار و(عولمة) الرأسمالية، في وقت تفتحت الثروات الكبرى، وازداد عدد حاملي الثروات التي تفوق كل منها مليار دولار.

بالطبع ليست الرأسمالية طبيعة بشرية وإن صدّروها كذلك. دعاة الرأسمالية ومثقفو اليمين يحلو لهم التحدث عن مفاتن الرأسمالية، لا عن مساوئها، ولا بد أن لهم مصلحة في ذلك، وإن كانت رواتبهم ضئيلة فالشهامة تقضي بذلك، حتى ولو صــــدر حديثهــــــم عن إرادة ومحاولة الاستفادة من هذا النظام الرأسمالي بأكثر من رواتب مستحقة.

المهم هو القول إنه قبل صعود الرأسمالية في القرن 16 وقبل استفحال الرأسمال المالي في أواخر القرن التاسع عشر، وقبل تفاقم تصدير الرساميل المالية منذ سبعينيات القرن العشرين، كانت الرأسمالية غير ما هي اليوم. كانت أقل عالمية معولمة. وقبل القرن الخامس عشر لم تكن الطبيعة البشرية رأسمالية أبداً. بالطبع بعد ظهور الرأسمالية تغيرت طبيعتها مرات عدة، وبالتالي الطبيعة البشرية، مرات عدة. هي طبيعة تصنع، أي يصنعها النظام، يصنعها البشر، وليست معطى طبيعياً، تلقائياً، إلهياً.

تعاطت هذه الرأسمالية الكبرى في الاتحاد الأوربي، بعنجهية واستكبار مع حكومة اليونان وشعبها. بلغ الأمر في بعض المرات حدّ البذاءة العنصرية تجاه الجنوب الأوربي ولا ريب في أن الموقف تجاه الجنوب المتوسطي (مناطقنا نحن) هو أكثر حدة وعنصرية. ربما كانت هذه البورجوازية الكبرى (التي تمثل أقل من عشر واحد بالمئة من سكان البشرية) لتخرج عن تهذيبها، لكن لم يكن لديها الأسباب الموجبة. تلك الأسباب هي في استفحال الأزمة.

الدين العام في الدول الفقيرة وشبه الفقيرة أمر مفتعل، حكام هذه الدول يستدينون لحكوماتهم (مع الكومسيونات طبعاً) بدافع من الرساميل الكبرى في الشمال، لا دائن من دون مستدين، يتحمل كلاهما المسؤولية.

يتراكم الرأسمال المالي بطرق شرعية، (وغير شرعية أحياناً (!)، إذ تبلغ تجارة الرقيق الأبيض والمخدرات وتبييض العملات والأعمال الإرهابية ما يضاهي حجم التجارة الدولية الرسمية والشرعية). يحتاج أصحاب هذا الرأسمال المالي الفائض إلى التصدير، يجد المصدرون في الدول الفقيرة مجالاً (للاستثمار). وعلى كل حال، كل دول العالم فقيرة، سواء كانت مجتمعاتها غنية أو فقيرة، حكومة اليابان تبلغ ديونها 173% من الدخل الوطني مقارنة مع اليونان التي يبلغ دينها 134% من الدخل الوطني. لبنان (متوسط الحال) إذ يبلغ الدين العام نحو 160% من الدخل الوطني.

لا بد أن هناك صراعاً بين الدائنين والمدينين. ولا بد أن يكون المدينون هم الأضعف، وهم الضحية. يتراكم الدين العام على مدى السنين، إذ يبلغ الضعف بعد بضع سنوات (حسب مستوى الفائدة، وكلما ارتفع مستوى الدين العام ارتفعت المبالغ المستوفاة كفائدة (بالإذن من مشايخ تحريم الربا: كل النظام العالمي الذي يحمي خلافتهم قائم على الربا). وعندما يفوق الدين العام إمكانيات الدفع، يُستدعى الضحايا من أجل إعادة هيكلة الاقتصاد، وبالتالي إعادة هيكلة المجتمع كي يتمكن المدينون الضحايا من الدفع. ويحصل ذلك بأن يقتطع المزيد من الفقراء، وهم يتحملون المزيد الأعباء، فيزداد عددهم.

الطرف الأضعف في معادلة الدائن والمدين هو المدين، وهو الضحية طبعاً، والطرف الأضعف هو ما يُطلب منه أن يبيع موجوداته (ما يوازي أثاث البيت) لدفع ما يترتب عليه من حقوق، وهي لم تصبح حقوقاً إلا عندما صارت ديوناً، إلا عندما اضطر المدين إلى الاستدانة، وعندما اضطر الدائن إلى التسليف. كلاهما يفعل ذلك بفعل ضرورات الرأسمالية المعولمة، فوائض مالية يجب أن تجد مجالاتها الاستثمارية حول العالم، ومَن يستثمر في بلد ما فهو يملكه، الذين سلفوا (أعطوا الديون) لليونان يملكونها، يريدون منها إعادة الهيكلة المالية (والاجتماعية)، الأمر تطلّب من اليونانيين ممانعة سياسية. في الأصل كل علاقة بين الدائن والمدين هي علاقة سياسية. ليس من علاقة اقتصادية إلا وهي بالنتيجة علاقة سياسية، أي علاقة سيطرة وتحكّم، يُسمّي البعض هذه العلاقة امبريالية جديدة أو غيرها، وبعض التبريريين للرأسمالية لا يحبون هذه التسمية، وهذا حقهم.

المهم هو أن تفاقم أزمات الدين، وانهيار البورصات (هل توقفت بورصة نيويورك لبعض ساعات نتيجة أخطاء كومبيوترية تقنية أم نتيجة انهيار مرتقب؟ لا ندري) هو مؤشر على أزمة رأسمالية (مالية مستفحلة)، نتائجها تختلف بين البلدان والمناطق، وفي منطقتنا العربية هي الأسوأ، لكنها يمكن أن تصير أسوأ حول العالم، ليس لدينا الحلول الناجعة، هذا صحيح، لكن على أصحاب النظام تقديم الحلول، هذه الحلول سوف تكون مفيدة لهم أكثر مما هي بالنسبة لنا، عندما قلنا للصارخين في لبنان جواباً على بيان (الانتحار الجماعي) موتوا وحدكم، كنا نعني بالقول جدوا أنتم الحل، لأنكم أنتم أساس المشكلة، والآن نتمنى على الرأسمالية المالية أن تجد حلولاً، أول بنود الحل يكون بأن لا تعتبر نظامها طبيعياً، وأن لا تعتبر الرأسمالية المالية طبيعة بشرية، ثم أن تستمر بالعمل وكأنها مافيا عالمية.

 

عن (السفير)

العدد 1105 - 01/5/2024