بين جنّة الاجتماع ووصية المعلم الأول عزلة المبدع… قدر أم خيار؟!

يميل معظم الناس في ممارستهم لعلاقاتهم بالآخر إلى الانضواء تحت مظلة منظومة العادات والتقاليد والأعراف بوصفها السبيل المجرب الأنجع والأسلم لمقاربة العلاقة البالغة الحساسية والأهمية بين الفرد والمجتمع. وإن تفاوتت درجة الانخراط بمقتضيات هذه العلاقة من شخص إلى آخر ما بين مراع  لحدودها الدنيا من باب رفع العتب واللوم، إلى مؤدٍّ لأدق تفاصيلها وحيثياتها إلى حدّ التزمّت وربما التبجيل أحياناً.

هذا عن السواد الأعظم الذي خلص بحكم التجربة إلى نتيجة عبر عنها الوعي الجمعي بمثلٍ شعبي بلغ مبلغ الحكمة مفاده أن (الجنة من غير ناس ما تنداس)، وتمثله جلّ الناس اتقاء شرّ الاستبعاد من دائرة تبادل المصالح أو الوقوع في براثن الوحدة الموحشة في مجتمع ينكر على الفرد حقه في الاختلاف.

ولكن.. ماذا عن تلك القلة القليلة التي اختصت على الدوام بمقاربات ومعايير مغايرة في نظرتها لسائر جوانب الحياة واعتباراتها، مقاربات ترى هذه الفئة في فرادتها تجسيداً لتمايزها عن العامة ومعايير اقتبستها من سِيَر ووصايا أرباب الفكر الإنساني وأساطينه، التي غالباً ما نَحَتْ نحو تمجيد الوحدة وتلازمها مع الحالة الإبداعية الخلاقة.

كيف يمكن لمن تتقد في روحه جذوة الإبداع المقدسة أن يتنكر لإرث معلمه الأول أرسطو الذي أشهر الوحدة فيصلاً  في حدّه الحدّ بين الإنسان المثالي والجاهل؟ (الرجل المثالي أفضل صديق لنفسه ويبتهج في الوحدة، بينما الجاهل العاجز المجرد عن الفضيلة أو المقدرة عدو نفسه ويخشى الوحدة).

إنها وصية أخذها جلّ تلامذته عنه، ولبثت ماثلة في وجدانهم على مرّ العصور، حتى لتبدو أشبه بسنّة واجبة لا ينفك أصحاب الحرفة يرددون صداها جيلا  بعد جيل بتواتر مثير للدهشة، كما لو أنهم يقدمون بها فروض طاعتهم لمعلمهم الأكبر أو يؤدونها أمانة وضعت في أعناقهم، حتى ترسّخت قاعدةً فلسفية ذهبية مع دخول الفلسفة عصرها الذهبي على أيدي عمالقة الفلاسفة الأوربيين. يقول فيلسوف الإرادة والتشاؤم الألماني آرثر شوبنهاور (1788 – 1860 م) معيداً استنساخ الوصية: (يكون الإنسان اجتماعياً بمقدار ما هو عاميّ وضعيف العقل).   ثم يضيف إضافته الخاصة بهذا الصدد حين يبتدع مقياساً جديداً لقياس قدرة الإنسان العقلية: (إن طاقة الإنسان على تحمل الضوضاء والضجيج من غير أن يضيق بهما دليل على مقدرته العقلية ومقياس لها، فالجلبة تعذيب للمثقفين الذين يعملون بعقولهم)، ليصل في النهاية إلى خلاصة مقتضبة تحتم غربة المبدع عن عصره:(كلما كان الكاتب أو الفيلسوف عبقرياً كان غريباً بالنسبة إلى معاصريه).

رأي لا يبدو غريباً عن طباع شوبنهاور الحادة وطريقته في إطلاق الأحكام القطعية المركزة، ولكنه سيبدو وياللغرابة أقرب إلى الاعتدال إذا ما قورن برأي فيلسوف من جيل لاحق قريب العهد به، إنه جان بول سارتر (1905- 1980م)، المفكر والفيلسوف الفرنسي الذي لم يشأ إلا أن يدلي بدلوه في هذا الشأن، منتقلا  بمفهوم أرستقراطية العقل الذي تبناه شوبنهاور إلى مستوى غير مألوف حين يكثّف الفكرة ذاتها بمفردات ثلاث (الجحيم هو الآخرون)! من يدري؟ لعل رائد الفلسفة الوجودية قد وقع في تراثه الاجتماعي الوطني على مقابل لحكمتنا الآنفة الذكر (الجنة من غير ناس).. فاستفزت فيه غيرته على بني جلدته (الفلاسفة) ليرد بهذه الحدّة القاطعة. كيف يمكن لهذا الرأي حين يجرى على لسان أحد أعظم مفكري القرن العشرين ألا يستحضر إلى أذهاننا شيئاً من تعاليم تلك الاتجاهات الفكرية المشرقية التي جعلت من العزلة والانقطاع عن الناس منهج حياة وسبيل نجاة؟

قبل ما ينوف على ثلاثة عشر قرناً من عصر سارتر، ومع انبلاج أولى خيوط فجر الحضارة العربية الإسلامية، التي تهافت مفكروها الأوائل على القبس من شعلة اليونان المتوهجة ، ما لبث صدى الوصية أن تردد في عقول أعلام الثقافة الوليدة. وسرعان ما أتيح لها من يلتقطها ويحمل لواء التبشير بها في مجتمعات المشرق العربي.

يقول الحكيم المكّي الفضيل بن عياض (107- 187ه)، (725 -803 م): (إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته من الفضيلة)، ثم يوجز موضحاً أن (من سخافة عقل الرجل كثرة معارفه).

ويوافقه الرأي معاصره وعلامة زمانه المحدِّث الكوفي سفيان الثوري (97 -161ه)،  (716 – 778 م): (أقلل معرفة الناس فلا أحسبني رأيت ما أكره إلا ممن عرفت). أما سلفهما ابن الربيع الزاهد فلا يتردد في إطلاق نصيحته القاطعة: (فرّ من الناس فرارك من الأسد)، التي تبدو خير استهلال لمقولة سارتر، فكل توافق أشبه بالتطابق، وكل استلهام أقرب إلى التقمُّص، هذا الذي جمع كل هؤلاء على اختلاف أزمانهم وأوطانهم وأهوائهم؟

إنها خلاصة ما وصلت إليه تجارب هذه العقول الخلاقة، وحصيلة تراكم خبرتها بسرائر النفس البشرية وطباعها.. وصفة مجربة يضعها ذوو الاختصاص بين يدي كل مسكون بهاجس السؤال، فللناس أن يتواصلوا كيفما يشاؤون، وأن يمارسوا عاداتهم وتقاليدهم واجتماعيتهم كما يحبون، ولكن هل لمن تعتلج في داخله شياطين الإبداع المتمردة أن يشعر بالانسجام مع المجتمع بكل ما قد يمثله من سطحية وفراغ؟ إن فعل فهو يجازف إذاً بالإخلال بقانون أساسي من قوانين وجوده وبفقدانه بريق جوهر كينونته وعلتها. وربما غدا أشبه بنمر سيرك مروَّض أكثر ما يمكن له أن يقدمه هو أن يؤدي بعض الحركات الرشيقة المتقنة التي قد تثير إعجاب جمهور يبغي التسلية والترفيه. ثم هل لدى المبدع متسع من الوقت للشعور بالملل لينصرف إلى قتله بنسج شبكة علاقات اجتماعية كما يفعل الآخرون؟

إن سير كبار مبدعي الحضارة الإنسانية في شتى مجالات الإبداع تؤكد أن نزوع المبدع إلى الوحدة ليس قراراً ذاتياً يتخذه تكبّراً وصلفاً على الآخرين أو (بريستيجاً) يؤشر لمكانته المعرفية بينهم، ولا حتى ضرباً من غرابة أطوار مصطنعة تميزه عنهم. إنه شعور تلقائي نابع من داخله، يطبع طباعه ويرسم حدود علاقته بالمحيط، فلا يملك إلا أن ينصاع له. هو نتيجة حتمية لمقدمة أزلية اصطفت العزلة للفكرة أماً رؤوماً.. تهدهدها بالصمت والهدوء، وتناغيها التأمل والتفكّر، وترضعها الصبر والأمل، إلى أن تنبعث نوراً يبدد بعضاً من ظلمة العقول.

العدد 1105 - 01/5/2024