«المطعون بشرفهم» وتحديث الكلاسيكية

(المطعون بشرفهم) رواية للقاص الروائي وفيق يوسف، تقع في 259 صفحة من الحجم الوسط. وقد فازت بجائزة الرواية في الشارقة.

وأستطيع أن أصنفها فنياً بأنها من روايات الكلاسيكية الحديثة. سأقرؤها قراءة نقدية تأخذ الجانب الفني وأبعاده، لأنه يهمني أكثر. لأن الأبعاد بينة واضحة. وأنا يهمني وصول الكاتب الروائي إلى أماكن لم يصلها أحد، وأن يمشي في دروب لم يمش عليها أحد، أي اكتشاف عالم لم يُكتشف بعد، في إطار أسئلة الوجود الكلية متى، أين،كيف، لماذا، هي مدار أسئلة الإنسان. كتبت الرواية بالأسلوب الواقعي تقريباً، وهو أسلوب أعتقد أن الزمن تخطاه. إذ إن الرواية تطورت فنياً وتطور أسلوب كتابتها كثيراً من الناحية الفنية. وطال التطور اللغة والأفعال والزمان والمكان والشخصيات والدخول والخروج ضمن الزمن الواحد (الفلاش باكات) والأحداث، ولم يبق ضمن أبعادها الثلاثة التقليدية. وبدأ ذلك في أوربا منذ بدايات القرن العشرين. أما في بلادنا فلم يبدأ هذا التطور والتحديث إلا في بدايات سبعينيات القرن المنصرم في بعض أعمال جورج سالم وهاني الراهب وغيرهما.

حاول الكاتب تخطي الأسلوب التقليدي في بعض القضايا، ففي الأفعال كانت أكثرها أفعالاً مضارعة، أي تتعلق بالزمن الحاضر، هذا الزمن الذي نعيش فيه. أي أن شخصيات الرواية تفعل، تتحرك، تنطلق، تأكل الآن، أي تعيش واقعها ولا تتكلم عن واقع (كان). وفيه فعل تحرك، انطلق، أكل وغيرها أي زمن مضى ولم تعد لنا علاقة به إلا في حيثيات أخرى. والزمن الحاضر هو زمن أبطال الرواية،له علاقة بروحهم ومسيرتهم وعملهم. هذا يعبر عن شعور المؤلف وصلته بحاضره، وبأن ما يخصه هو الآن، مثلما يعني الفعل المضارع. وكذلك نلاحظ في الرواية استعمال المؤلف لضمير المتكلم أكثر من الضمائر الأخرى كالغائب، وهذا يعني أيضاً أن من يقوم بالحركة والفعل هو (أنا)، من يقوم ويقعد ويتحرك، أي أن ذلك يمسني ولا يمسه، أي أنا منغمس في قلب الأحداث ولا أتفرج عليها من الخارج، فأنا في داخلها، في أعماقها، في مسير الرواية. واستعمال ضمير المتكلم يشعرنا بمحاولة الكاتب الجادة تطوير أسلوبه الكتابي، وأنه يرى أن الكتابة بضمير المتكلم متقدمة فنياً على الكتابة بأسلوب الغائب، وأنها أقرب إلى الصلة بالحياة اليومية. ويأتي أسلوب التقسيم الرقمي أي تقسيم العمل إلى فصول إلى أرقام، أو أعداد أي إلى 1-2-3-،4 أو تقسيمه إلى فصول شخصية مثل – سلمى – مصعب – وغيرهما ضمن محاولات التحديد وإضفاء فنية مغايرة للعمل أيضاً. وفعلاً فإن هذا التقسيم أضفى قيمة فنية على الأسلوب، وجعلنا نحس بجمالية أعلى في هذه الناحية، إذ رفعتنا إلى إحساسات تذوقية وأعطتنا نشوة مختلفة. وهذا الأسلوب انتشلنا من حالة التواتر في الأسلوب التقليدي أي التواتر في مسار الشخصيات وعلاقتها.

أسلوب الرواية ليس أسلوباً شاعرياً، ولكن فيها قسماً لا بأس به من الشاعرية التي حلّتها وشكلتها بروح الشعر وطلاوته ورقته، رغم أن الأسلوب الشاعري هو أسلوب حديث لأنه يقرب العمل من الروح والوجدان كثيراً. و الشاعرية التي لحظناها في بعض أجزاء الرواية قربتها من التحديث أيضاً.ونقول هنا إن هذه المقاربات وهذه النقاط الأربع، أي الفعل المضارع، وضمير المتكلم، والتقسيمات، وبعض الشاعرية، كانت لصالح المؤلف في رؤيته وأعطتها زخماً فنياً واضحاً ظهر في زمانها ومكانها وترابطها، وفي علاقتها الروائية الداخلية والخارجية ونبض شخصياتها. وتعاملها مع ذاتها ومع غيرها ومع نمو العمل الروائي أثناء التغيرات الزمنية والمكانية والظروف البيئية المختلفة والأفكار التي طرأت وتطرأ على مسار بعضها. هذه المقاربات والظهورات تدخل في باب الحداثة الذي يلاحقنا يومياً في كل ميادين الإبداع الأدبي.

 وفي مجال السلبيات في الرواية فقد لاحظنا ظاهرة الكنكنة، أي وجود فعل الكون (كان) بكثرة في تلافيف صفحات الكتاب وهي كمثل ثمرة لافتة. وعند قراءتنا لهذه الأفعال وجدنا أن بإمكان المؤلف التخلص من الأكثرية المطلقة من هذه الأفعال بتغيرات طفيفة لا تمس العمل أبداً. ولن نضرب أمثلة على ذلك فالأمثلة أكثر من أن تحصى. وظاهرة وجود أفعال الكون أثرت على العمل قليلاً.ويمكن للكاتب التخلص من هذه الظاهرة إذا أعاد طباعة روايته.

 في بعض صفحات الرواية خطابية غير مقبولة، كما في لصفحات ،227226225 خطابية أساءت إلى جو الرواية ومسيرتها. والخطاب هو كلام بعضه زائد وبعضه معروف لا لزوم له، وبعضه يمكن أن يختصر في كلمات أخرى، وفي الرواية صفحات أخرى فيها خطابية.

وحول قضايا براءة الريف ووخم المدينة التي تطرق إليها العمل بشكل ما، فإننا لاحظناها في عدة أعمال روائية. وأعتقد أن لذلك أسباباً اجتماعية بالدرجة الأولى، وأسباباً اقتصادية وطبقية. إضافة إلى الأسباب الجغرافية والتاريخية. والفكرة بحد ذاتها تطرق إليها الكثيرون. وأقول إن الإشارة إليها هنا مباشرة لم يكن مناسباً، ولو كانت الإشارة إلى تلك الفكرة عابرة لكانت مقبولة.

 وفي الرواية استعارات من ديوان بدر شاكر السياب أنشودة المطر، وهي اقتباسات زادت عن حدها الطبيعي وكانت كثيرة، خاصة من قصيدة أنشودة المطر، رغم جمالية هذا الديوان وقيمته الفنية، وخاصة القصيدة المذكورة. ولكن الاقتباسات منها كانت لافتة للنظر، ولو أن أفكار بعض أبياتها قد تطابقت مع فصول الرواية.

 أما عنوان الرواية (المطعون بشرفهم) فكان دليلاً موضحاً للعمل. أو كان حسب قول المثل الشعبي (المكتوب ظاهر من عنوانه)، علماً بأن العنوان في الأعمال الأدبية لم تعد له تلك الوظيفة، أي أن يشير إلى معنى العمل، بل أصبح العنوان يشارك في فنية العمل وقيمته الجمالية. وصار يدخل في أبعاد العمل ويشارك في إيحاءاته وأسئلته، والإشارة إلى أبعاد مجهولة فيه لا تظهر إلا خلاله وخلال أعماقه. فالعنوان أصبح له كيانه الخاص وقيمه الفنية والجمالية. (فالمطعون بشرفهم) كان دليلنا إلى موضوع الرواية دون عناء. وفي قضايا العنوان والعنونة ظهرت عدة دراسات وعدة كتب لبعض الباحثين في السنين الأخيرة. المهم أن العناوين غير التقليدية وغير المباشرة والموحية أجمل وأحلى في الأعمال الأدبية الحديثة.

 النهاية في الرواية كانت نهاية مغلقة ومتوقعة ومعروفة أي أنها انتهت بانتهاء الرواية كما هي الروايات التقليدية. مع أنه من الأفضل لو أن النهاية تركت مفتوحة، وذلك ليتسنى للقارئ المساهمة في إعطاء النهاية ما يراه هو أو يشعر به إلى أنه الأفضل أو الأنسب، كي لا نعطي القارئ كل شيء أو لا نترك له شيئاً.

فصل مصعب رصد رصداً جيداً بداية الوحدة السورية المصرية وموت جمال عبد الناصر، ومس هذا الرصد أعماق مصعب وما يعتمل فيها. ويمكن القول إن هذا يمس أعماق الإنسان العربي السوري عموماً وحبه للوحدة ونهجه القومي. ولكن أسلوب هذا الفصل الإنشائي أثر على فنيته. فقرة سلمى من الصفحة 102 إلى الصفحة 108 فقرة معبرة فنياً لتمثلها ما يعنيه الإحباط وخلفياته وأبعاده. وما يجري فيه من شؤون بينها وبين ذاتها وبينها وبين الآخر ومجريات الحياة والقيود، والتداخلات النفسية والاجتماعية وغير ذلك.

 لوحظت عند المؤلف الإمكانية العالية لتسيير الشخصيات عبر الأمكنة والأزمنة في الرواية، وعبر مسارات الشخصيات مع نفسها ومع الآخر. ونقول إنه في مجال الشخصيات فإن الكتاب يضم 23 شخصية بين شخصيات رئيسية وشخصيات ثانوية وهنالك أطفال. أهم الشخصيات الرئيسة في الرواية هما شخصيتا مصعب وسلمى. أما الشخصية الرئيسية التي يمكن أن نطلق عليها بطل الرواية فهي شخصية مصعب، أما الشخصيات الثانوية فأهمها هي زوج سلمى.

السمة الرئيسة في الرواية هي سبر أغوار المثقف، والدخول إلى أعماقه وقراءتها ومحاولة تحليل أبعادها النفسية، وخلال ذلك الدوران في تلك الأغوار وملاحظة الهواجس العامة، ومتابعتها ضمن مكان معين وزمان معين، ضمن تغيرات على الأرض سياسية وفكرية وتحولات أخرى. ثم ملاحقة هذه الشخصيات عبر تلك الظروف والمجريات. وملاحظتها عبر الشخصيات الأخرى ورصد تلك العلاقات الخاصة والعامة. وهذه السمة التحليلية لا يمتلكها أي روائي، فهي تُذكِّر ببعض الروائيين العالميين الذين امتلكوا تلك السمة أي التحليل العميق لمسار الشخصية عبر كل مراحل حياتها ومسيرتها الزمانية والمكانية.

استطاع الكاتب تجسيد الحالة الاجتماعية والفكرية، وبالتالي الأخلاقية لمرحلة معينة مرت بها حياة الناس، حالة الانتقال من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، وما شابه تلك الحالة أثناءها والتأثيرات خلال وسائل الاتصال والإعلام والتعليم، والعلاقات الإنسانية التي سادت وتطورت، كذلك خلال المعارف والصداقات التي نشأت و استحالة العودة إلى عادات وتقاليد عمرها آلاف السنين. لقد استطاع الكاتب تبيان وكشف ذلك بمهارة ومعرفة، وذلك لتعرفه تلك الحالة خلال قراءتها جيداً والانغماس في مسيرتها، والمشاركة الفعالة في أعمالها كما أعتقد. كل ذلك كان بعد دراسة تلك الشخصيات التي نوهنا بها من رئيسية وثانوية. وبيّن لنا أن تلك المرحلة أبرزت لنا شخصيات دنيئة منحطة، وأنه يجب علينا معرفتها وتحاشيها إن استطعنا. ويجب علينا أن نعرف أن مجتمعنا مملوء بأمثال تلك الشخصيات الدونية والسافلة والتي لا تتوانى عن فعل أي شيء سيئ في سبيل مصالحها، وأنه يجدر بنا تكوين الأسباب الاجتماعية النقيض للأسباب الموجودة حتى نستطيع تخليص المجتمع منها. وأن نعلم أيضاً أن المجتمع لا يخلو من أمثال مصعب وغيره، الذين يظلون محافظين على الأخلاقيات الإنسانية التي تحافظ على الشرف، والوفاء، والإخلاص، والواجب، وعلى النقاء والود والحب وعلى ربط الحياة بأكملها بكلمة الصدق وسؤال الواجب، وعلى أن ذلك يساوي الوجود بأكمله، وأن الظلام لا يمكن أن يحل محل النور والشمس.

رواية (المطعون بشرفهم) رواية مرحلة قرأها الكاتب بتعمق وجسدت على صفحات الحياة، فكانت معبرة تماماً عنها.

العدد 1105 - 01/5/2024