المجدُ لله

أهربُ من قسوة الوقت، وقلق الانتظار.. أبحث عن نفسي في ظلّ أمكنةٍ تتنفسُ من فتنة الأرض سرَّ خلودها، ونبض كينونتها.

أهرب من نفسي إلى نفسي المعتّقة في شجن التاريخ، إلى باحات الروح، وإيقاع خطوات تتنسّم من عبق الطرقات والدروب لمسة الصفاء.

تسبقني أمنيات روحي كي تقرأ أسفارَ من مرّوا على مدى التاريخ.

أرى (ابن عساكر الدمشقي) يسمو فوق برج الزمن، وقباب الأضرحة الموشومة بالنقاء، يكتب تاريخاً لدمشق سيبقى خالداً على مرّ العصور.

في دمشق القديمة، أرى صورتي محفورة على الحجارة العتيقة، أرى نفسي في فضاءٍ نديٍّ  يبدو سخيّاً بالعطاء يطلّ من فرجةٍ بين شرفتين وشجرة ياسمين، وابتسامة صبيّة تجدّ الخطوات بثقة على درب يصل بها إلى سدّة حلمٍ شفيف، ومستقبل وضيء يتحقق..

في دمشق القديمة، تنفّستُ حلميَ الأول، يومَ تَنفّستِ الأوابدُ تاريخها..

تمرّ من أمامي، وعلى بريق عينيّ المتعبتين، قوافلُ الحجيج، تسبقهم رايات النصر مرفوعة على هامات جنود يتقدّمهم الناصر صلاح الدين الأيوبي، يرثُ من نجم الدين أيوب سؤدد التوجّه، وطلاوة الإيمان بالله والأرض والتاريخ.

من ساحات قلعة دمشق، انطلقت خيول النصر لتحرير القدس.

الإمام محي الدين بن عربي، يؤمّ كوكبة من المصلين الزهّاد، شيوخ الستر الرشيد، يرفعون راية الإسلام العصماء، والرحمة المرسلة، الشيخ محمد بن الهاشمي، الشيخ عبد الرزاق البيطار،الشيخ محمد الدقر، وشيخنا الشهيد البوطي، يتمسّكون بشرعة الحق والحقيقة..

أربع مآذن في الأمويّ تصدح بنداء الله أكبر، نبيّ الله يحيى، يقوم واقفاً، لم يزل رأسه يعلو هامته، يسخر من قاطعي الرؤوس.

أنصتُ، فيخشع قلبي.

تعبر الذاكرة بحر المسافات، تتفتّق عرواتها المكينة، ويعلو صوت جبابرة مرّوا من هنا، لامست جباههم تراب هذه الأرض سجوداً لله وشكراً.

خالد بن الوليد ينفض سيفه المنتصر في معركة اليرموك، سعد بن أبي وقاص، يرفع رايات النصر على ذرى القادسية، يردد المكان سيرة الرجال، قتيبة بن مسلم الباهلي، محمد بن القاسم الثقفي، عمرو بن العاص، وغيرهم وغيرهم، أعلام توارثوا المجد كابراً من كابر.

المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة.

آه يا دمشق!

كم قاتل سفّاح مرّ على ثراك، تربّص بك الشرور، فوقفتِ صامدة، قويّة مؤمنة..هزمتهم، فانكفؤوا خائبين.

هذا غورو يقف على قبر الناصر، ويتبجّح أنه عاد.. فهل عاد حقاً.؟!

ذهبتُ أستلّ الجواب من سلطان الأطرش وصالح العلي، من هنانو والأشمر، فحدّثوني عن يوسف العظمة، وميسلون.

أهرب من نفسي إلى نفسي التواقة إلى استلهام العبر، والاشتداد بأولئك العظماء.

وما إن عبرت الدرب الضيق المحشور بين رتلين من الدور والمحلات العابقة بروائح التاريخ، ونسائم أشجار النارنج والكبّاد والليمون، ورشقات زهيرات الياسمين، وكبوش البنفسج، حتى فاجأني شاب!

رأيت في وجهِهِ وجهَ نبيّ الله يوسف، قامته رمح محارب، وفي عينية نظرات تحمل قيم النبل والصمود والصلابة.. يرتدي بزّة العزّ المموّهة، وعلى كتفه (الكلاشين) يتمدد على نبضات قلبه، ابتسم، فأضاء الدرب، نظر إلي بودّ، وطلب مني بطاقتي الشخصية، دون تردد أخرجتها وقدمتها له، كان يقرأ وأنا أبتسم، قلت له مداعباً:

 أنت أول رجل يطلب مني بطاقتي الشخصية منذ أول الأحداث.

لمَعت عيناه ببريق مدهش، لكنه نابض بالحزن، ولوعة الفقد، ردّ لي البطاقة، وأردف بصوت خفيض:

 وأنا، منذ أول الأحداث حتى الآن، لم أر وجه أمي، أشتاق إلى حضنها، وإلى رغيفها، وإلى رشقة السحر الطالعة من وشوشات ثوبها.

حاول أن يقتلع ابتسامة من واحة الصمود المتناثرة على تفاصيل وجهه، فسبَقتهُ دمعة.

ضممته إلى صدري.. وبكينا معاً.

العدد 1107 - 22/5/2024