قمح بلادي الجميلة

منذ آلاف السنين وسورية الجميلة تزرع القمح في سهولها وجبالها، فمنه ما كانت تخزنه ومنه ما كانت تصدّره إلى بلاد بابل وآشور والأناضول وإلى مختلف أنحاء العالم. توارثت الأجيال زراعة القمح منذ القدم وبقيت هذه الزراعة من أهم أشكال الفولكلور في حياة ريفنا المتسع. وطفولتنا كانت شاهداً على هذا الفولكلور الجميل وحافظة لقصّته التي تبدأ مع المحراث القديم الذي نسميه (الصّمد)، إذ كان الفلاحون يحرثون الأرض ويبذرون القمح يدوياً ويغطّونه بما يسمى (الطاشوش)، وهو قطعة خشبية سميكة على شكل مستطيل تعلق من الجانبين برأس الدابة ويوضع عليها ثقل، ويترك الزرع ينمو دون عناية ولا أسمدة إلى حين الحصاد.

كانت عملية الحصاد تتم يدوياً: يصطفّ الرجال على شكل نسق يحصدون القمح بمناجلهم الحادة، ووراء كل حاصود فتاة تلمّ الأشمال (جمع شمل) بواسطة (المعقالة)، وتضعها على شكل أكوام موشورية (عقب ورأس)، بحيث تبقى السنابل مطمورة ومتجهة إلى الداخل، وبعد فترة أسبوعين أو ثلاثة، تبدأ عملية لمّ الزرع ونقله، فتأتي النساء والرجال وكلّ معه (مغمرانة) للمّ الزرع ووضعه على الشحر، فما هو الشحر؟ إنه عبارة عن آلة بسيطة على شكل سلّمين من أخشاب قوية مثبتة من الأعلى ببعضها بواسطة براغي طولها لايقل عن 30 – 40 سم، ويوضع الشحر على ظهر الدابة ويُكدس الزرع على الشحر من الجهتين وهو فوق ظهر الدابة ليُنقل إلى البيادر.  يبقى البيدر معرّضاً للشمس عدة أسابيع، تأتي النساء لتقصيل سوق السنابل الطويلة ومعالجتها وصبغها بمختلف الألوان، وليصنعن منها أجمل الأطباق للطعام وللزينة وغيرها من الأشكال (الجميّم – الربوعة – القشوة وغيرها..) وتأتي (دراسة القمح) فيرمى قسم من البيدر إلى محيط دائرة قاعدتها بعرض 150 سم، تسمى (الدريخة) وينقل (الحيلان) أو (المرج) الذي تجرّ كلاً منهما دابة كبيرة تدور حول البيدر، وبعد عدة دورات يقوم شخص آخر بقلب الدريخة بواسطة المذراة الحديدية، وعندما تتم عملية فصل حبوب القمح وتنعيم القش بشكل جيد، تزاح الدريخة التي أصبحت على شكل كومة قمح وتبن، وتشكّل دائرة جديدة حول قاعدة البيدر وترمى من البيدر (دريخة أخرى) وتُدرس وتضم إلى القسم الأول، وهكذا دواليك. حتى الانتهاء من دراسة البيدر، عندئذ يقوم الفلاح بتجميع الناتج من المحيط إلى المركز ويصبح الناتج على شكل مخروط ارتفاعه بحسب ضخامة البيدر وكمية الزرع، وفي شهر آب يبدأ الفلاح بفصل الحَب عن التبن بواسطة المذراة الخشبية، وما أجمل الذكريات عن عملية الحصاد والنقل والدريس والحب والغزل والباعة والأطفال وأكل ماتيسر والكثير غيره، مما كان يجعلنا نقدس القمح المسؤول عن طعامنا اليومي، إذ كان إلهاً من آلهة السوريين اسمه إله الدجن (أي القمح).

 وهكذا تطورت الزراعة بمختلف مراحلها مما أزاح عن كتف الفلاح الكثير من التعب والإرهاق لتوضع على كتفه هموم أكبر من التعب الجسدي أبرزها التعب الفكري: كيف سيؤمّن حياة أولاده في المدارس والجامعات والسكن والزواج وغيرها خاصة أن الرخصة الزراعية التي كانت 25 دونماً تقلصت إلى 5 دونمات أو أقل، وأسعار قمحنا القاسي لاتتجاوز التكلفة التي يضعها الفلاح في الدونم الواحد، إذ إن كلفته لاتقل عن 18 ألف ل.س ووسطي إنتاجه لايزيد عن300 – 400 كغ، فاحسبوها تجدوا أن الفلاح يزرع ليعطي القمح للدولة أو للتجار لا ليربح، أفليس من حقه على الدولة إعطاؤه ثمن تعبه، إن لم يكن برفع السعر فبالمكافأة المجزية حين يسلّم محصوله لمؤسسة الحبوب والمطاحن؟

فلاحنا السوري الذي يصنع رغيف الخبز وكل مشتقات القمح لأكثر من 23 مليون مواطن سوري ويوفر الأمن الغذائي للبلاد، ألا يستحق التكريم؟ لا أعلم ما إذا كانت حكومتنا أو المختصون فيها على الأقل يقرؤون مناشدة الفلاحين لهم بمكافأة تعوضهم ماخسروه من مال وجهد وعرق جبين.

العدد 1105 - 01/5/2024