إيقاع الزمان والمكان في رواية «من العنبوس إلى محاورات البريرية»

تقوم هذه الرواية على تجسيد فعلي لمفاهيم أدبية ونقدية وجمالية جديدة تتصل بوظيفة الرواية. ومفاهيمها وصلتها بالواقع وعلاقتها بالمتلقي.

فالكاتب عبر روايته وأدواته يحاول التعبير عن علاقة الإنسان بواقعه المتغير المتجسد.

 كما يطرح الأسئلة الفنية التي تصدم القارئ وتهز وعيه الجمالي وذوقه، كما تثير روايته قضايا جمالية عبر محاورات الشخصيات، إذ بنيت شخصياته بالطريقة المباشرة بتقديم الشخصية بواسطة التسمية وصفاتها النفسية أو الجسدية، كما يمكن للاسم أيضاً أن يوحي بجزء من صفات الشخصية كشخصية (فتنة).

(نمشي باتجاه البرامكة، نعود للحديث عن قضايا الفن، تحاول وضع الشواهد، في بعض المرات تحاول فرض رأيها وتعتبره الأصح وتهرب من الحوار وألاحظ أنها تغضب داخلياً، لا تريد إظهار غضبها، فيظهر عليها الحزن)

ونجده يقول في جمال فتنة أيضاً:

(وفتنة إلى متى؟ فتنة الحلوة ذات الجمال الفريد، مقهى المتحف يعج بطلاب الفنون، منهم يتدربون على رسم الوجوه والقامات والجذوع، أتذكر لوحتي، أتذكر ضرورة إنهائها).

رواية (من العنبوس إلى محاورات البريرية) غنية بالشخصيات، فهناك شخصية السارد بشر، الذي يدير الأحداث، وهو العارف بكل الأمور والأشياء. فالكاتب اعتمد على تقنية التداعي بضمير المتكلم. فالرواية كما ذكرنا سابقاً ( يوم من أيام بشر).

ونلحظ في هذه الرواية شدّة الاهتمام بالجانب النفسي في بناء الشخصية و إظهار العمق النفسي لكل شخصية من شخصيات الرواية، وكذلك بالحوارات السريعة المركزة التي تتبادلها الشخصيات:

(زاهر، أحنف، بشر، أمجد، سعد، الميداني، الصالحاني، البريري، بائع الأمشاط، ماسح الأحذية، بائع الصحف، عمرة، سامية، فهر، زهر، شهيرة، لماح، خطار، بائع النرجس، الأب، الأم…..)

(يمر بائع اللوز والفستق من أمامي، سلَّته في يده، طويل بل مفرط في الطول، ينادي على فستقه، ينادي بصوت حنون، ثيابه هي هي، الجاكيت الأبرش الأزرق والشروال الأسود الذي يتحول إلى ألوان أخرى غير معروفة، وكفيه مغبرة غبار الزمن يملأ كل شيء فيه، غبار الزمن يملأ حتى عينيه حتى كلماته، يملأ ألحانه).

فشخصية بشر الرئيسية تتحرك منذ بداية الرواية لتحقيق هدف معين، تفرح لفرح الآخرين وتحزن لحزنهم، تسعد برؤية الأشياء الجميلة التي تبعث الأمل والفرح، وتستشرف المستقبل.

ويصور لنا أماكن الانتقال المفتوحة والشوارع والساحات، مثل ساحة الشهداء – وساحة عرنوس – وساحة الشهبندر، وحديقة الجاحظ.

(تقاطع الصالحية يكتظ بالبشر، من شتى المشارب والألوان والأشكال، نتفرج على هذا الجمع ونمشي. تعاود سؤالها عن الأيام الماضية، أجيبها، أسير معها، تخبرني عن معرض سيفتتح اليوم في أبو رمانة، أقول لها أعرف وقد قرأت عنه في الجريدة، وأتابع هل تحبين حضوره؟ ترد بالإيجاب).

والأماكن المغلقة تمنح الروائي، إمكانية أكبر للعناية بعناصر الفضاء كالمقاهي والبيوت، فالمقهى مكان لتجمع الناس، إذ يجتمع الناس في المقهى للعب النرد والورق، وتذاكر أحوالهم فجمال الوصف هنا لهذه الأماكن تنبع فجأة وسط السرد ولا تبدو جامدة، بل هي نسيج الواقع ومن نسيج الذاكرة.

( يوم الاثنين طويل لا ينتهي، طويل في زمني وأزمان الآخرين ما زال الوقت مبكراً، المقهى يمتلئ بالرواد، أدقق النظر بهم، أنظر في كل الأرجاء، أسمع أغنية حللية من أحدهم يغني على مهله، أفرح كثيراً بها يلاحظ لماح سروري وفرحي، يعرف سبب فرحي الغامر، يفرح هو الآخر).

كما اهتم الكاتب محمد خالد رمضان بالترتيب الزمني للحدث، فالقضية هي سرد للحوادث المتسلسلة زمنياً.

فالراوي يحكي أحداثاً انقضت، كقصة حبه لسامية ويتحدث عن الحاضر الروائي وعن المستقبل، ولا يترك نفسه أسيراً لتطورات أحداثها التي تفرضها طبيعة السرد الذي هو عرضة للتطوير أو التغير، فرواية (من العنبوس إلى محاورات البريرية) هي رواية كتبت بالحاضر، وتطرح أسئلة الوجود والموت والحياة، وتختزل هذه الرواية الزمن الروائي في يوم واحد من أيام بشر هو يوم الاثنين. إذ ورد ذكر هذا اليوم عدة مرات في الرواية.

فالسرد في هذه الرواية يقوم بالتمرد على منطقة الحركة المتتابعة وتمزيق فلسفة الترابط، ويسعى إلى كسر الزمن واختزاله ونفيه. ونلحظ ذلك في بروز ذاتية السارد وهيمنته، وتعليقاته، واسترسالاته الحرة ووصف الأشياء وتناوب المقطع السردي والانحرافات السردية المتكررة والاستطراد والقفز والاسترسال والمزج بين الومضات السردية واللقطات الوصفية، وانسجاماً مع رؤية الرواية وتماهي الأزمنة، ونلاحظ توظيف الأدوات السردية التراثية والأساليب السردية الحديثة، فهو يوظف الأغنية الشعبية والعادات والتقاليد.

(تمسك أمي يدي وتضحك ثم تبكي، أبكي معها، ترتل لي بعض الأدعية والبسملات، وتطلب من الله حمايتي من كل الأشياء الشريرية والعين الحاسدة، وأن يخلصني الله من الأيام السوداء ولا يضيعني).

وإضافة إلى الأغنية الدمشقية الجميلة

عالصالحية يا صالحة 

يا جبنة طرية يا مالحة

جبلي وجبلي

يا ماما جبلي

حلق الألماس 

ريتو يلبقلي

وصورت رواية (من العنبوس إلى محاورات البريرية) العادات الاجتماعية والتقاليد الشعبية التي ترافقها كالولادة، والخطوبة والزواح والمأتم.

(والدتي ملكة الحناء في الأعراس كما يدعونها،.. نرقص ونغني مع أمثالها من الأطفال والفتيان، فزهر وفهر يدبكان الدبكة مع الكبار، صوت المجوز يتعالى في الدبكة وصوت الطبل والشبابة كل دقيقة أو دقيقتين،.. عرس ابن عمي يتحول إلى عرس للبلدة كلها، الكل يدبك ويزغرد أو يردد، والعراضات تأتي من بقية البلدات والقرى).

وتشكل اللغة الشعرية عصباً مركزياً في نسيج النص الروائي ونلحظ هذا في الاقتصاد اللغوي المتمثل في التركيز والتكثيف والطاقة الإيحائية العالية ومن شعرية النص الروائي:

(أقرع الآن باب نبع لم أر مثله، شجر يمتد إلى الأعلى بألف لون ولون، قصائد تغني للأشجار تأخذها معها في رحلة ممتدة، عبر طريق الزمن، نبع يشع بأضواء خيالية، أقرع بابه لأشرب من مائه الصافي، الصفاء يريني أشياء غريبة عجيبة من الفرح).

رواية ( من العنبوس إلى محاورات البربرية) رواية جديرة بالقراءة، وهي مشوقة وغنية بالقيم الإنسانية والتربوية والأخلاقية والجمالية، وهي إحدى الروايات الفائزة بجائزة الكتاب العرب في مسابقة الرواية.

العدد 1105 - 01/5/2024