ما بين الحكومة والمواطن التساؤلات المشـروعة في ظل الهروب للأمام

 كان اجتماع رئيس الحكومة مع الصحافة السورية في مقر اجتماع مجلس الوزراء وعلى كراسيهم سلوكاً رمزياً سليماً، وإن جاء متأخراً كثيراً، بسبب الإهمال والتهميش السابق، وخاصة خلال الأزمة، لدور الصحافة الحرة وتجاهل أقلامها ومحاولة إسكات جزء كبير منها، وهو ما حدث مثلاً للملف الاقتصادي لجريدة (تشرين) بعد تغيير رئيس تحرير الجريدة وتعيين رئيسة تحرير جديدة صرحت علناً بأنها لا تريد الملف الاقتصادي لما اشتكى منه النائب الاقتصادي الأول خلال الأزمة من نقد للقرارات والسلوكيات، وكذلك من خلال التعامل مع التحقيقات الاستقصائية والملفات الساخنة بلا مبالاة، من مبدأ (دعهم يقولون ما يريدون ونحن نعمل ما نريد)! ولكن عقد هذا الاجتماع، إن كان شارة البدء لإعادة الروح إلى جسد الإعلام بشكل عام والاقتصادي بشكل خاص، ليشكل سلطة محقة متابعة فاضحة من أجل تقويم السلوك وإخافة الفاسدين والمتاجرين بلقمة عيش المواطن، الذين لا يهمهم إن غمّست بالدماء، فهذا هو السلوك الصحيح لمن يريد أن يعيد سورية إلى شرفائها، ومن نقد نفسه واعترف بأخطائه وقرر إصلاحها والاعتراف بالخطأ فضيلة، ولكن أن يكون هذا السلوك ذكاء لتبرير الماضي والهروب إلى المستقبل، فهذا ما لا تحتمله سورية ولا الشعب السوري الذي تحمل وصبر بشكل فاق كل التصورات، صبر على كل شيء: على الدماء التي فاضت وأحاطت به، وعلى الدمار الذي حطّم ما دفع ثمنه، وعلى النزوح الإجباري الداخلي والخارجي الذي جعل صغار الناس يقتربون من كرامة السوري الذي لم يطأطئ رأسه سابقاً.

الأكيد أننا نتفق مع كلام رئيس الوزراء حول قساوة الأزمة على سورية، والهوامش القليلة للمناورة، وهول الخسائر من تهريب الأموال وسرقة المعامل وتدمير المدارس والمشافي، ومن تكلفة السلاح وحرق المحاصيل ومنع الزراعة في أماكن أخرى، ومن التكاليف المترتبة على العسكرة وعلاج الجرحى وتوريد السلاح والحصارات الغاشمة الظالمة التي لم تؤثر إلا على الإنسان السوري خارجاً عن إرادته، والتي فرضتها دول تدّعي احترام حرية الإنسان ونشر الديمقراطية وهي من أكثر من يحارب هذا السلوك في الحكم لغيرها، وخاصة لدول منطقتنا، وتحاول قطع أي بوادر منها، وهي أكثر من يعمل لمنع التنمية المستقرة المستمرة المتوازنة التي تؤمن الحاجات الأساسية للإنسان، وبالتالي تعطيه أغلب حقوقه، ودوماً هدفها استمرار التبعية لها وعدم الاستقلال.

والأكيد أن كل هذه الظروف كفيلة بتهديم أي دولة في العالم وتدميرها، ولولا الإنجازات البنيوية التي استمرت ثلاثة عقود، ولم يستطع أعداء الوطن تفريغها، بسبب صلابة البنيان وتمسك الشعب بمكاسبه قبل الأزمة، ومواجهة النهج الاقتصادي الذي فرضته مجموعة هدفها مسايرة الغرب وتهديم البنيان وإيجاد المداخل لما نحن عليه اليوم، والاغتناء على حساب الوطن والمواطن، لولا ذلك كله لما صمدت سورية وشعبها! ولولا النهج الاقتصادي السابق لنهج الدردري، والتركيز آنذاك على بناء الانسان من خلال الخدمات التي قدمتها الدولة من تعليم مجاني وعلاج ووسائل راحة قاربت العدالة، ولولا النهضة الصناعية والزراعية التي حققت الأمن الزراعي وتميزت بالصناعات التحويلية وأزهرت الصناعة السياحية، ولولا الكوادر التي هيئت حتى غزت أغلب بلاد العالم، لما صبرنا على الرغم من الهجوم المبرمج على هذه الإنجازات ومحاولة الإفساد وتهميش الكفاءات وإقصائها، وخصخصة كل شيء وقتل القطاع العام وسحب كل الامتيازات بحجة رفع الدعم حيناً وعقلنته أحياناً.هذه المصطلحات التي مهدت البيئة لتهشيم صلابة البنيان التي وصلنا إليها.

وللأسف ما لم يصل إليه أصحاب نهج اللبرلة استغل البعض الأزمة لتمريره، استغل البعض الأزمة لتدمير المعامل التي لم يستطع التخسير المبرمج قتلها، وفُتحت الأبواب للبعض لاستيراد البديل من دون منافس، أو لصناعة الأسوأ وفتحت له الأسواق، واستمر مسلسل عدم اصلاح مؤسسات القطاع العام وشركاته لتي إن لم تعد للحياة فلا حياة اقتصادية صحيحة ولا تحسين لمعيشة المواطن المغلوب على أمره، ولا انتصار للدماء السورية التي فاضت، ولا انتصار لسورية التي أنهكت، ولا إمكانية للعودة إلى التنمية المستمرة المتوازنة المستقلة، فكيف ذلك وكل أسّ الفساد يتحين لحظة الانقضاض على كعكة إعادة البناء؟! بوجود الشركات العامة لن يستطيعوا اللعب منفردين وبالشروط التي يفرضونها، وكذلك الاستمرار بسياسة تحرير الأسعار ولو أحيانناً حرجاً، فقد كانت تصدر بعض التسعيرات التي تمنى المواطن لو أنها لم تصدر، وغُيّب التسعير الاداري ونُسي، لأن قوى الفساد لا تعترف به ولا تسمح لأحد بتمريره، فاستمر القلة يتحكمون بالأسعار وباستيراد المواد، وغابت التنافسية التي هي وسيلة للوصول إلى أحسن الخدمات بأقل الأسعار، وحُجّمت مؤسسات التدخل عن القيام بالدور الحقيقي: التدخل باستيراد السلع والخدمات وعرضها، وقُوّض دور المؤسسات الخارجية، ليجري الشراء عن طريق محتكري السلع والمواد أنفسهم بالأسعار التي يحبونها ويفضلونها، واستمر الأداء القاصر المشوب بالفساد والإفساد لمن أوكلت له مهمة حماية المستهلك ومراقبة الأسعار والنوعية والصلاحية ومتابعتها، وفرّغ الهدف الذي أقيمت من أجله وزارة حماية المستهلك أول الأزمة، ليكون حال القول: ليته ما كان!

 وأما موضوع الدولار فلن نتكلم عن انعكاسات الأزمة وإن كانت قاسية، ولكن نتكلم عن وقائع تناقض ما قيل وما فعل وما دبر وما عمل به، فكيف نصدق ما حصل لليرة ونعلم من حيث المبدأ أن أغلب الانعكاسات لا تظهر إلا بعد الأزمات، بسبب وجود الاحتياطي الذي هدفه المحافظة على سعر الصرف، والذي هو من أهم مظاهر الاستقرار والأمان وخاصة في وقت الأزمات، وما كان يقال أن حجم الاحتياطي لا يقل عن 25 مليار دولار قبل الأزمة، وأول الأزمة حتى مرور عام لم يتجاوز سعر الدولار 80 ليرة وكانت أقوى فترات الضغط والنزوح الخارجي، ثم ارتفع ليصل إلى103 ليرات، وبتدخلات جانبية عاد ليستقر خلال أيام، ثم بدأت المضاربات ووصل إلى 300 ليرة، ثم بعد تدخل المؤسسات المختصة عاد للهبوط ووصل بفترة أيام ل130 ليرة، وبعد ذلك أخذ حاكم المصرف قراراً برفع سعر التصدير وعادت الكرة وبدأت التبريرات:

يوماً يقال إن 5 صفحات فيسبوكية هي السبب، ويوماً إنها المضاربات ببلدان الخليج، ويوماً: من بيروت تحدد الأسعار! والحاكم بالتبريرات يضيع وكأن همّه عدم إعادة الروح لليرة. وما لفتنا أن سعر الدولار قبل الأزمة كان سياسياً مع هوامش للعرض لا تتعدى 10 % وخلال الأزمة يعوّم ويصبح عرضة للعرض والطلب في ظل عدم توفر حواجز الدفاع المناسبة! وما سببه التخبط الدولاري في زيادة نيرانية للأسعار وفي تلاعب التجار وغير ذلك من الأعمال التي لم تراع بها الأزمة، كما حصل مع السكن العشوائي ومحاربته، ليحرم الفقراء من حلم اقتناء منزل ويحرم مئات الالاف من فرص العمل بعد أن ملأ الفاسدون جيوبهم من المتاجرة بحاجة الفقراء وملأ مرتشو البلديات خزائنهم وضربوا ضرباتهم رغماً عما صدر من قوانين وحتى مراسيم تفرض التسويات. وحسب ظننا أن ظروف الأزمة كانت تقتضي التساهل والعمل بجدية لحل مشكلة كهذه وتأمين حاجة المواطن إلى السكن ورفد خزينة الدولة بمليارات الليرات. وكان تصرف عقلاني عادل يكفي بدلاً من أن يكافأ المجرم والفاسد ويعاقب المواطن المغرر به. ولن نذكر الارتكابات التعفيشية واللصوصية، ولن نذكر ما تقوم به الجمارك من سلوكيات ابتزازية، لأن ما يهمنا هو أن نصل إلى ما يحمي بلدنا ومواطننا.

 باختصار نقول لكم: الجوع كافر، وما مورس جوّع الأغلبية، فالأسعار نيرانية، ونصف الشعب عاطل عن العمل، ووسطي رواتب العاملين حوالي 25 ألف ليرة وحاجة الأسرة المكونة من 5 أشخاص 180 ألف ليرة سورية ليكون من الطبقة الوسطى، وحسب ظني 100 ألف لحواف الفقر المدقع. الأغلبية غيرت أسلوب طعامها وقشفته وأولاد الذوات في الملاهي والتلاهي والمقامر وفي تبديل السيارات يصرفون ما يعيل آلاف الأسر! وسؤالنا: في ظل الأزمة هل يجب علينا أن نتحمل فقط من كانوا سبباً مباشراً به أم يجب أن يكون العدل هو الصواب؟ باختصار نقول: تصرفكم صحيح إن لم يكن هروباً إلى الأمام. وباختصار: كان الفساد سبباً مباشراً للأزمة، وسياسات التعيينات مكمل لما سببه الفساد، فإذا لم تتبنَّ الحكومة سياسة تعيينات اختيارية لذوي تاريخ كفء ونظيف، وبرنامجاً اقتصادياً واقعياً يراعي الخصوصية السورية، واضحاً متابعاً ومراقباً، وصلاحيات لا يحد منها أحد، لن يكون كل ما قلته وفندناه إلا هروباً إلى الأمام!

العدد 1105 - 01/5/2024