المسرح وتعرية انهيارات الثقافة والقيم الإنسانية: قراءة في مسرحية «الشباب» لديرنمات

المسرح أبو الفنون الأدبية، وازدهاره مؤشر إلى تمدن المجتمع وحضور الثقافة، لأنه ينقد ويعري ويوقظ ويحاور، وهو يحفز على المراجعة والتفكير العميق في أسباب المشكلات، ويمكّن من استعادة التوازن في الأزمات الخانقة مثل الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، والأوضاع التي شهدها العالم المعاصر في العقدين الأخيرين. وقد ظهر عشية الحرب العالمية الثانية وبعدها مسرحيون كبار لاقت مسرحياتهم الاهتمام عند عرضها، وساهمت ملاحظاتهم النقدية والإخراجية في تطوير التجارب المسرحية، وتعزيز دور المسرح وحضوره، ومن هؤلاء: ماكس فريش وبرتولد بريخت وآرتور أداموف وجون أوزبورن ودوريس ليسنغ وفريدريش ديرنمات.

ولعل ديرنمات وبريخت هما الأبرع في توظيف المسرح في تعرية شروخ الواقع وانهيارات القيم الإنسانية بعيد الحرب العالمية الثانية، إذ قدما تقنيات إخراجية مهمة، وأشركا المتفرج في اللعبة المسرحية، وأسهما في توثيق الصلة بين المسرح والواقع المعاش.

وفريدريش ديرنمات مسرحي وقاص وناقد سويسري (1921 ـ 1990)، ولد في قرية كونو لفنجن قرب مدينة برن، لقسيس بروتستانتي، وكان جده ألرش عضواً في المجلس الوطني السويسري وكاتباً ساخراً، وتأثيره واضح على حفيده.

ارتحلت أسرة ديرنمات إلى برن عام ،1935 فدرس في مدارسها، ثم انتقل إلى زيوريخ لدراسة الفلسفة والأدب وعلم الطبيعة، واطلع على فلسفة كيركجورد الوجودية، وفلسفة أرسطو فانس، وقرأ شعر التعبيريين، وخاصة جورج تراكل (1887 ـ 1914) وجورج هايم( 1887 ـ 1912) اللذين رحلا مبكراً بحادثين أليمين.

أمضى ديرنمات عامين في بازل (1946 ـ 1948)، وبدأ الكتابة للمسرح، ولفتت مسرحياته اهتمام النقاد، وتزوج من الممثلة لوتي جيسلر. وكتب أوبرات وتمثيليات إذاعية وقصصاً ومقالات ومحاضرات نقدية.

وأبرز مسرحياته: مكتوب، الأعمى، رومولس الكبير، وجاء الملاك إلى بابل، زيارة السيدة العجوز، علماء الطبيعة، ستربذبرغ، الشهاب، زواج السيد ميسيسيبي.

ومن أوبراته: فرانك الخامس، ومن حلقاته الإذاعية: الشبيبة، ومن مقالاته: مشاكل المسرح. ومن محاضراته: محاضرة عن الشاعر شيللر.

مسرحية (زواج السيد ميسيسيبي) أخرجت للمسرح عام ،1952 دان فيها الطبقة السياسية والكنيسة لتراجع دورهما الاجتماعي. ومسرحيته (زيارة السيدة العجوز) تهكم فيه على مواطنيه السويسريين الجشعين المولعين بجمع المال، بأية وسيلة، ومقولتها إن المال يستطيع شراء كل شيء حتى العدالة والأخلاق. ومسرحية (علماء الطبيعة) أخرجت عام 1962 إبان الحرب الباردة، ودانت توظيف الاكتشافات العلمية في التدمير، وتهميش العلماء والمفكرين أو إذلالهم ودفعهم إلى السجن أو الجنون، ومسرحية (رومولس الكبير)، عرضت عام ،1949 وكشفت انحدار الحضارة الأوربية عبر استحضار انحلال الإمبراطورية الرومانية، ولفتت المسرحية إلى أن محبة الإنسان وخدمته هي الأساس في الحياة.

مسرحية (الشهاب) إضافة مهمة إلى عقد مسرحياته، لما تضمنته من تجديد في بنية النص، ومن تعرية النخب وموظفي الدولة الكبار، ومن انتقاد جسور للتشوهات الاجتماعية والدينية، وقد ترجم المسرحية إلى العربية أنيس منصور، وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1974.

تدور أحداث المسرحية في مرسم كان يشغله فولفانج أشفتر الذي بدأ عمله في الرسم، ولم تلق لوحاته رواجاً، فقرر التحول إلى الكتابة، واشتهر، ومنح جائزة نوبل للآداب، وجمع ثروة طائلة، ثم اعلن خبر وفاته خطأ، وكان أسعف إلى المستشفى، فغادر المستشفى، وعاد لتفقد مرسمه القديم، وفاجأ الرسام هوجو نيفتشنالد الذي استأجر المكان بعد رحيله عنه، وبدا للرسام كأنه شبح، أو أليعازر عائد من الموت إلى الحياة، وبينما كانت المؤسسات الحكومية والثقافية تحضر موكب جنازة الأديب الكبير، كانت الزوجة أولجا، والابن يوكين، والناشر كارل كوبه، والقسيس أمانويل لوتس يفتشون عن (الميت الهارب) للانتفاع بحصصهم من ثروته، وكان الطبيب الجراح أشلاتر الذي كتب شهادة الوفاة يسرع إلى المرسم ليخلص من الورطة التي وضع نفسه فيها، وقد تكلفه سمعته وعمله، أما الناقد الكبير فريدريش جورجن فقد أعد خطبة طويلة تليق بمكانة الكاتب الراحل، سيلقيها بعد مراسم الدفن.

وأول خطوة قام بها  الأديب أشفتر الناهض من الموت هي الطلب إلى الرسام إحراق آخر مخطوطاته التي ينتظرها الناشر، ثم طلب إليه أن يحرق رزمة النقود الكبيرة التي لديه، وهي ثروته التي جمعها من حرفة الكتابة، واختيار لحظة اللقاء بين الأديب وأفراد أسرته (الزوجة والابن والحماة)، وممثلي النخب الثقافية والعلمية والدينية: الناشر والناقد والطبيب والقسيس والرسام وقائد جيش الخلاص، وهي اللحظة التي كان فيها الأديب يحتضر، ثم منح قرصة العودة إلى الحياة من جديد، وهي عودة افتراضية ما دامت الصحف والهيئات المعنية والمستشفى قد أكدت خبر الوفاة، هي الأنسب للمصارحة والتعرية وقول المسكوت عنه، كما أن المرسم حيث الرسام يرسم أوغستا العارية هو المكان الملائم كي يعري الأديب الواقع كما خبره، لا كما تحدث عنه في مسرحياته وقصصه الرائجة. يقول الأديب للرسام: الموت رائع، يجب أن تجرب الموت ولو مرة، سوف تخطر لك أفكار، وسوف تتخلص من عقد، وسوف تظهر لك رؤى رائعة.. ص 11.

ويعيد الأديب ترتيب أثاث المرسم كما كان أيام سكناه فيه، ويدور حوار بينه وبين المقاول البخيل موهايم يكشف فيه انحلال الحياة الزوجية، فقد صارح المقاول أن زوجته كانت تخونه، واكتشف الأديب أن زوجته خانته مع جزار، فتزوج ثلاث مرات بعدها. وكانت زوجته الأخيرة غانية وبائعة هوى مثل أمها تومسن التي غدت بعد سنوات سيدة أعمال.

ويستعيد الأديب سيرته أمام زوجته الغانية التي طاردته وهو في قمة مجده، ويكشف فساد مجتمعه، ويقول: كنت حراً عندما بدأت أكتب.. ثم جاء النجاح والشهرة، وبدأت ألمع أسلوبي في الكتابة، وزوجتي الأولى خانتني مع خياط لكي تحصل منه على بذلة ألبسها، وزوجتي الثانية والثالثة كانتا تنظمان شهرتي..

إن المجتمع هو الفساد، ومن هذا المجتمع ألتقطك، وفي استطاعتك أن تؤدي لي خدمة أخيرة: عودي إلى مهنتك الأولى (بائعة هوى)، إن زواجي منك جعلك مشهورة (ص 41-42.

وتبلغ السخرية ذروتها حين يكتشف المقاول أنه زوج مخدوع، وحين يطلب منه الأديب أن يرمي الورود المقدمة إلى موكب الجنازة من (نادي القلم ورئيس الوزراء) ومن (الوطن الممتن إلى الابن البار)، ومن المحافظ ومن لجنة نوبل ومن اليونسكو ومن جمعية الأدباء، ومن المسرح القومي، ومن رابطة الكتاب) ص 61-،61 في لفتة ذكية إلى زيف هذه الهيئات والشخصيات ونفاقها، كما يطلب منه أن يقلب لوحات الرسام. في إشارة إلى أن كثيراً من الوقائع قد اختلت، والعديد من القيم الإنسانية قد انقلبت وتغيرت!

وكشف الحوار بين الأديب والمقاول سمتين من سمات الطبقة المغتنية: أولاهما هشاشتها، إذ يحس المقاول بعد سماعه حكاية خيانة زوجته له أنه في الثمانين، وأنه مستعد أن يقتل أحداً بسبب ذلك، ويخاطب الأديب الناهض من الموت قائلاً: (أنت أصعب من الموت) ص 61. والثانية: ادعاؤها أنها خالدة وقوية، إذ يخبر الأديب المقاول أن حكاية خيانة زوجة المقاول خيالية، وأنها من إحدى قصصه، فينتفض المقاول قائلاً: أنا موهايم الكبير أبقى من الزمن!

ويلجأ ديرنمات إلى المفارقة والمبالغة بطريقة متقنة، ويوظفهما ببراعة كي يزيد إحساس المشاهد بشروخ المجتمع، فالأديب الذي وقع الطبيب المختص شهادة وفاته مرتين ما يزال حياً، والمرسم العجيب المعتم يتسبب بموت من يوجدون فيه: الرسام والمقاول والقسيس والزوجة ألوجا والطبيب والسيدة الغسالة، حتى ابن الأديب الشاب يجد نفسه على حافة الهلاك، لأنه لم يجد شيئاً من ثروة أبيه يؤمّن به عيشه.

وتأتي خاتمة المسرحية لتبرز المفارقة والمبالغة ببراعة، فقد دخل إلى المرسم رجال من جيش الخلاص يرتلون، لينقلوا (جثة الأديب)، الذي قدر له أن يبعث من الموت، وهم مخولون بدفنه (بحسب اعتقادهم)، فيصرخ بهم الأديب: ألقوا بي على السلالم يا ببغاوات المزامير، اضربوني حتى الموت أيتها الطبول المدوية. ص 92.

رأى ديرنمات التغيرات التي عصفت بالمجتمع الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، وأدرك خطورة انحدار القيم وتسطيح الثقافة، وتزييف القيم الجمالية والأخلاقية، وطور لغة المسرح، وجعلها أقرب إلى الحوار اليومي، وقدم إضافات إلى الفرجة المسرحية، ووضع تفصيلات كثيرة يمكن أن يسترشد بها المخرجون، واختار شخصيات محيرة وغريبة الأطوار ومتمردة، وتأثر بالمسرحي الألماني بريخت في مسألة إزالة الحاجة بين الخشبة والجمهور، وفي إشراك المتفرجين في الحوار المسرحي، وركز على استخدام المبالغات بطريقة مدروسة، وقال في محاضرة بعنوان (مشاكل المسرح) ألقاها في الذكرى المئوية الثانية لميلاد شيللر: إن لغة المسرح لا يمكن أن تخلو من مبالغة، ولكن المهم أن نعرف متى يمكن أن نبالغ وكيف!

العدد 1105 - 01/5/2024