الإبداع والتحولات التقدمية الكبرى… قراءة في رواية »الفردوس على الناصية الأخرى« للبيروفي يوسا

رصد روائيو أمريكا اللاتينية التحولات التاريخية ومنعطفاتها الحادة التي حدثت في دول القارة، وساهموا في تطوير الفن الروائي، مستندين إلى الإرث الحضاري للسكان الأصليين من جهة، ومستفيدين من كنوز الأدب الإسباني والأندلسي، ومن الثقافة الأوربية وأعلامها الكبار، وأدهشوا النقاد والقراء بواقعيتهم الغرائبية السحرية التي لونوا بها عوالمهم الروائية، وشقّوا طريقهم إلى العالمية بجدارة.

هذه إطلالة على واحد من روائيي قارة العجائب الأسطورية والروائية هو ماريو بارغاس يوسا، وعلى روايته التي أعدّها واسطة العقد في مجموعة رواياته. وهو إلى جانب إبداعه القصصي والروائي ناقد وباحث، ومحاضر في جامعة مدريد الإسبانية، وحاصل على الجنسية الإسبانية إضافة إلى جنسيته.

ولد يوسا في مدينة أريكيبا بالبيرو، ودرس الآداب والفلسفة في العاصمة ليما، وشارك في النشاط السياسي إلى جانب التيار اليساري في بلاده، وتنافس على منصب الرئاسة في انتخابات عام 1992 ضد مرشح اليمين فوجيموري الذي فاز بالمنصب، ثم أقصي بعد سنوات ولوحق بتهم فساد.

عرى يوسا في رواياته فضائح الفساد، وتناول موضوعات العنف والنفاق الاجتماعي، كما انتقد فساد النخبة العسكرية، ومن أعماله في هذا الفن الصعب:

(المدينة والكلاب) عام ،1962 (محادثة في الكاتدرائية) عام ،1969 (حرب نهاية العال)م عام ،1980 (قصة مايتا) عام ،1984 (حفلة التيس) عام ،2000 (الفردوس على الناصية الأخرى) عام 2003.

وقد أعد يوسا دراسات نقدية عن ماركيز وفلوبير وأرغويديس، ونال جوائز أدبية عديدة من بينها جائزة النقد، وجائزة ثربانتيس وجائزة بلانيتا، وهو منذ سنوات مرشح دائم لجائزة نوبل.

رواية (الفردوس على الناصية الأخرى) صدرت بالعربية عن دار الحوار باللاذقية عام ،2004 وترجمها صالح علماني، وهي متوالية روائية ترصد تحولات ثورية في القرن التاسع عشر غيرت أوربا كلها، عبر سرد مشوق لتجربة شخصيتين مدهشتين: فلورا تريستان القائدة النقابية وبول غوغان الفنان التشكيلي الشهير.

فلورا بنت غير شرعية بسبب زواج أمها غير المسجل كنسياً، نصحتها أمها (البرجوازية السابقة) مدام تريستان، التي بلغت حافة الفقر حين كانت الابنة في سن المراهقة، بقبول عرض رب عملها للزواج بعد إخفاقه في جعلها عشيقة له، فتقبل مرغمة، وتخاصم أمها لأنها حشرتها في هذا الجحيم، وتنجب ثلاثة أطفال. ثم تنفصل عن زوجها وتهرب بعد ولادة طفلتها ألين، وتخوض صراعاً مع الزوج للفوز بحضانة طفليها لأن الثالث توفي، وأعلنت (المحاكم الكابورية) التي لجأت إليها فلورا الحق للزوج شازال، رغم أنه كسول كحولي فاسد منحط، وشيطان تعس. وحثالة بشرية، وهو لا يتورع عن التمتع بجسد ابنته، أما هي فقد كانت، بنظر قضاة المحكمة، مشبوهة. ص 340.

اختطفت فلورا طفلتها وأخفتها لدى صديقة فلاحة، وحاول الزوج قتلها بمسدس، لكن الرصاصة استقرت قرب قلبها، ولم تقتلها، وأودع الزوج السجن، ثم سافرت إلى البيرو بحثاً عن جزء من إرث أبيها، وحلت ضيفة على ابن عم أبيها، لكنه لم يعترف لها بأية حقوق. وكتبت انطباعاتها ومعاناتها في كتاب عنوانه (اغتراب منبوذة) عام ،1838 ولاقى الكتاب رواجاً في باريس، وأحرق في أريكيبا بالبيرو، وشارك في (طقوس) الإحراق عمها دون ميو تريستان ص ،341 وعلّقت الراوية الظل: (الحرية لا تأتي مجاناً).

استطاعت فلورا الملاحقة والمحاصرة والمعطوبة القلب أن ترمم ثقافتها، وأن تكتشف عوالم لاتتحدث عنها الكتب، وأن تغضب لبؤس العمال والعاملات والحرفيين، وقد لقبها بعض المتندرين (مدام غضب) لحماستها في الدفاع عن أفكارها، ونشاطها الواسع في تنظيم العمال والعاملات والدفاع عن تعليم الأطفال، وعن حقوق الرعاية الصحية للأسر المفقرة، ولاقت تشجيعاً من بعض ناشطات العمل الخيري، وتحذيراً من أرباب العمل ورجال الدين.

وتعرفت فلورا على الحركات الناشطة أواسط القرن التاسع عشر، وعلى زعماء الاشتراكية الطوباوية وأنصار التعاونيات في فرنسا وبريطانيا: شارل فورييه وروبرت أوين، وحاورت شخصيات بورجوازية من أرباب العمل والأثرياء، وغاصت عميقاً في القاع الاجتماعي، وحاورت تجمعات عمالية، حرفية في المدن الفرنسية، وزارت لندن ورأت بأم العين بؤس العمال والعاملات، وتزيّت بزي رجل لزيارة مجلس العموم البريطاني، ومواخير البغاء، ودعت العمال الأذكياء إلى تشكيل لجان عمالية تمثلهم، واشترطت أن تضم كل لجنة عاملة أو اثنتين.

وزارت فلورا (الأندلسية والراهبة العلمانية) كما لقبتها صديقتها أولمبيا، ورشاً ودور أيتام ومصحات مجانين وبيوت دعارة، وقال السارد على لسانها: (لا يمكننا إصلاح ما نجهله! ص 93. ووجهت نقداً لاذعاً لأفكار فورييه والاشتراكيين الطوباويين، وجالت في المدن الفرنسية، وحيث العمال والحرفيين على الانتظام في (الاتحاد العمالي) ووزعت كتيباً لها يحمل العنوان نفسه، ولاقت مضايقات وتهديدات من أرباب العمل، ومن السلطات والصحافة الصفراء، وألقت محاضرات، وأجرت حوارات كثيرة مع عمال النسيج، وحذرها المدعي العام الملكي من عواقب عملها الهدام، ولم تأبه لتحذيراته، وقالت: (تعلمت من المجتمع في ليون خلال ستة أسابيع أكثر مما تعلمته طوال حياتي السابقة). ص 90.

يسرد الروائي بطريقة متناوبة تجربة الشخصية الثانية الشهيرة، وتخص الفنان بول غوغان حفيد فلورا وابن ألين. الذي جاء إلى الفن بالمصادفة، بعد أن عمل في سلاح البحرية، وخبر ظروف عمال الموانئ الصعبة، وأوضاع البغايا المزرية، ثم عمل وكيلاً مصرفياً، قبل انتقاله إلى عالم الفن التشكيلي وطقوسه وتحولاته الغرائبية، وقادته رجلاته بحثاً عن النقاء الفني إلى جزر المارتينيك وتاهيتي، واكتشف خلال معايشة السكان الأصليين هناك أنهم أكثر حرية، وتناغماً مع الطبيعة، وأنقى سلوكاً من البرجوازية الأوربية المنحطة المحافظة والمخادعة.

لم يعرف بول أمه لأنها توفيت وهو طفل، وقد رسم صورة لها لكنه أضاعها، وقد سعى مثل جدته فلورا التي كافحت لأجل إقامة مجتمع إنساني، فاهتم بتطوير الفن عبر إعادته إلى منابعه، وإنقاذه مما ألحقته به (حضارة بليدة متزمتة) من تشويه وجمود.

واجه بول سوء فهم وحصاراً من الفنانين المعروفين، لكنه واصل كشوفه الفنية بعزيمة قوية، ولاقت لوحته (نيفر مور) المستوحاة من قصيدة (الغراب) لإدغار آلن بو، اهتمام النقاد، كما توالت لوحاته التي أطلق عليها أسماء بلغة شعب ماوري: (تساؤل وجودي) و(آلهة تحرس الطفلة) و(خيول وردية) و(راهبة الإحسان). واستضافه الفنان الهولندي فنسنت غوغ في محترفه المسمى (البيت الأصفر)، لكن صداقتهما لم تطل، فغادر إلى جزيرة المركيزات البعيدة، تاركاً فنسنت الطيب على حافة الجنون، وقال السارد الخفي على لسان بول: (فنسنت الذي يفهم في الفن، وفي الألوان واللوحات، لا يفهم شيئاً على الإطلاق في الحياة!) ص 312.

أقام بول في الجزيرة محترفاً سماه (دار المتعة)، وتحمل آلام داء عضال لازمه، وأضعف حواسه، ورسم لوحة أسماها (ساحر هيفاوا) وهو في حال أقرب إلى العمى، واكتشف أن انحطاط الفن الأوربي عائد إلى انفصاله عن كلية الوجود التي تظهر في الثقافات البدائية ص 402. ورأى أن الفن لا يتمثل بمحاكاة الطبيعة، بل يتمثل في التحكم بتقنية إبداع عوالم مختلفة عن العالم الواقعي، كما فعل فنانو الحفر اليابانيون ص ،451 وقال في لحظاته الأخيرة محتجاً: ليس هناك ما يستحق الكلام ما دام أحد لا يفهمك! ص 455. ورحل وهو في الخامسة والخمسين مفلساً ومنبوذاً من السلطتين الاستعمارية والكنسية، وأبلغ أسقف هيفاوا رؤساءه الخبر قائلاً: (مات مؤخراً في الجزيرة فجأة شخص يدعى بول غوغان، وهو فنان معروف، ولكنه عدو للرب ولكل ما هو محتشم على هذه الأرض). ص 462.

شخصيتان نادرتان في أسرة ممزقة، الجدة فلورا الناشطة المدافعة عن حقوق المفقرين، والمنظِمة النقابية البارعة، والفنان غوغان أبرز المدافعين عن إنسانية الفن، الذي رصد لحظات حياتية نادرة لم يفهمها (فنانو باريس المتأنقون)، واتهموه بالشذوذ.

يقترب يوسا في لغته المنسابة وغوصه في عوالم أهل القاع الاجتماعي في الأحياء الفرنسية المفقرة، أو في المستعمرات والجزر البعيدة، من لغة جورج أورويل في روايته (متشرداً في باريس ولندن)، ولكنه يرسم شخصياته بوضوح، ويلتقط مواقف طريفة ومفارقات مدهشة، وظيهر لنا ما قدمه القرن التاسع عشر من تحولات تقدمية وإنسانية، لم تقلل من وهجها الانكسارات والهزائم، ففي هذا القرن تأسست اللبنات الأولى للحركة النقابية، وصدر البيان الشيوعي، وأنهي نظاما القنانة والرق، وتطورت الفلسفة والآداب والفنون، وبدأت إرهاصات التحرر من الاستغلال المتمثلة في كومونة باريس والعاميّات الفلاحية، وفي اقتراب غروب الاستعمار القديم.

الرواية توجه رسائل في اتجاهات عديدة: فهي تكشف الوجه القبيح والمتوحش للرأسمالية الجديدة، إذ تستلب البشر والشعوب والثقافات. وهي تستنهض النخب والقادة في القطاعات النقابية والثقافية، وتنصف التجارب الفنية، وتقاوم التعتيم الإعلامي على أصحابها، فقد عاشت فلورا تريستان واحداً وأربعين عاماً، وعاش حفيدها بول غوغان خمسة وخمسين عاماً، ولكن نصف العمر يمكّن المرء من إنجاز الكثير حين يقضيه بامتلاء وحماسة وذهن متوقد.

العدد 1105 - 01/5/2024