دور الدولة التنموي

 لعل من أكثر الموضوعات التي كانت محط اهتمام علم الاقتصاد منذ نشأته، هو دور الدولة الاقتصادي، وهنا نلاحظ مجموعة من الأفكار التي تمنح الأولية لدور الدولة في تحديد دور السوق، وآلياته وقوانينه، وأخرى تمنح السوق الأولية وتؤكد مزاياه بالمقارنة مع دور الدولة. وتبلورت هذه الأفكار الموالية لأولية السوق لدى الليبرالية الاقتصادية الجدية، التي نهضت في أثر ظهور أزمة الكساد التضخمي في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، على أنقاض النظرية الكنزية، وبعد تبني كل من إنكلترا (تاتشر) 1979 والولايات المتحدة(ريغن) 1980لليبرالية الاقتصادية المتوحشة، بدأ السعي إلى تعميم سياساتها وثقافتها في العالم أجمع، فقد وُضع برنامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي فيما يدعى (وفاق واشنطن) وهو تلاقي إدارة ثلاث مؤسسات مركزها واشنطن (حكومة الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي) وقدم هذا البرنامج إلى البلدان النامية والبلدان الاشتراكية السابقة، من أجل التحول نحو اقتصاد السوق. ويقوم هذا البرنامج على مجموعة من السياسات الاقتصادية والمالية والتجارية تتمحور حول:

1- خفض الإنفاق العام بشقيه الجاري والاستثماري. مما يعني تقليص دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي.

2- الحد من الائتمان.

3 – تحرير الأسعار وإطلاق قوى السوق.

4- تحرير التجارة الخارجية بوصفها قاطرة النمو.

5- الخصخصة والتخلص من القطاع العام.

6- تشجيع ودعم الاستثمار الخاص (المحلي والأجنبي).

7 – إعادة بناء الأسواق بما يؤمن فرصاً أوسع لنمو الرأسمالية المحلية و جذب الرأسمال الأجنبي، ودمج الاقتصاد الوطني بالاقتصاد العالمي.

إن هذا البرنامج للتحول نحو اقتصاد السوق، يلتقي مع الاستراتيجية الأمريكية ومع سياسات الشراكة الأوربية، وهو يهدف فيما يهدف إليه، إلى إضعاف الدولة تجاه الخارج، وخاصة تجاه متطلبات أمن إسرائيل، وبالتالي إلحاق الدول التي تقبل بتنفيذ البرنامج الأمريكي والأوربي والصهيوني. وكانت الولايات المتحدة قد تبنت المدخل الديمقراطي، لإجراء التغيير في المنطقة العربية ابتداء من احتلال العراق والعمل على نشر نموذجها الديمقراطي، إلا أن الفشل الذي لاقاه المدخل الديمقراطي، جعل أصحاب المشروع يتجهون إلى المدخل الاقتصادي الذي يهدف إلى إجراء التحول نحو اقتصاد السوق، وبالتالي إضعاف الدولة بإدخال التغيير إلى طبيعة دورها الاقتصادي والاجتماعي، توصّلاً إلى ما دعاه (وفاق واشنطن) حكومة الحد الأدنى، مما يهيئ الساحة السياسية والمجتمعية لتنفيذ المخطط الإجرامي في تدمير سورية دولةً ومجتمعاً واقتصاداً، والأهم أيضاً إنهاك الجيش السوري وإضعاف قدرته القتالية في مواجهة إسرائيل.

والآن، بعد مضي أكثر من أربعين شهراً على بدء الأحداث، وبعد الصمود الاسطوري الذي أبداه الجيش السوري الوطني والشعب، فإن الحاجة ماسة لتلمس الدور المأمول للدولة في تحقيق التنمية والاعمار، إن المهمة الكبيرة والمسؤولية ضخمة، وما يساعد على تحقيق هذه المهمة، وضوح الرؤية، وسلامة الطريق وامتلاك البوصلة التي تكشف أي انحراف عن ذلك الطريق. ولعل مرحلة الانطلاق الأولى تكون بتحديد الهدف، واستعادة زمام المبادرة في بناء دولة قوية، باقتصادها، وبمجتمعها، وجيشها. وأيضاً وقبل كل ذلك بحاملها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي- أي مجموع فئات الشعب التي كانت مستهدفة ومهددة بالتفكيك والتفتيت- الذي يقوم الآن متحدياً، ليدافع عن وجوده وعن دولته وعن مستقبله.

دولة قوية، نعم، عكس ما كان يريده من انتهجوا سياسة الليبرالية الاقتصادية الجديدة وسياسة الانفتاح والسوق المنفلتة من قيوده، والأساليب المختلفة لإفساد الإنسان والمجتمع.

والدولة القوية اليوم تتمثل في الدولة التنموية، وهي تتحقق بـ:

– اتباع السياسات الاقتصادية والاجتماعية المؤدية إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والمستقلة والمستدامة، وهذه السياسات هي على نقيض سياسات الانفتاح الاقتصادي وتحرير التجارة وتغليب مصالح الأغنياء.

– تحقيق معادلة النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.

– المشاركة الشعبية والديمقراطية.

والدولة القوية هذه، سوف تقوم بإعادة اللحمة إلى المجتمع السوري، وتحقيق أجواء العدالة الانتقالية، وإعمار ما خربته يد الإرهاب الإجرامية.وهي بلا شك ستكون قادرة على ذلك وفق عقد اجتماعي جديد يؤمّن مشاركة شعبية حقيقية، ويعيد الشعب إلى وطنه ويعيد الوطن إلى مواطنيه.

العدالة الاجتماعية وعلاقتها بالتنمية

إذا كانت العدالة، بصفتها مفهوماً إنسانياً، تحظى باعتراف عام، فإن المسألة الخلافية تتجلى في تأسيس العدالة ذاتها، ويكاد يكون الاتفاق تاماً بين الفلاسفة والمفكرين على اعتبار العدالة من أهم فضائل السلوك الإنساني، واعتبارها موقفـاً أخلاقياً، أي أن الجدل السياسي والاقتصادي حول العدالة يحتدم في التفاصيل خاصة في مسألة (التوزيع). والمساواة في التوزيع (الفرص) نجدها لدى الليبراليين، فإن الاشتراكيين يطرحون الموضوع من زاوية (من كلّ حسب قدراته الإنتاجية)، في حين الشيوعيون تتمثل لديهم العدالة في (لكل حسب احتياجاته). وهذا التباين يطرح مسألة خلافية أخرى وهي مدى ضرورة تحقيق مبدأ المساواة الأساسية لجميع البشر في شكل العدالة من حيث توزيع الفرص لتحقيق الغايات. وبينما تفرض الليبرالية السياسة تكافؤ الفرص، فإن الاشتراكية الديمقراطية تطالب بالمساواة في النتائج.

ويقدم جون رولز، نظرية جديدة للعدالة تقوم على إرساء مبادئ (دولة الرفاهية العصرية) التي تقوم على التفسيرات المرتبطة بالنظريات النفعية المحضة. ويطرح (رولز) سؤاله الجوهري عن كيفية التوزيع العادل للخيرات الاقتصادية والفرص بالمجتمع. ويرى أن المجتمع يكون عادلاً، عندما يتفق جميع (المشتركين) على ذلك وتحت شروط عادلة ومنصفة، وهنا يمثل الإنصاف دوراً هاماً في تصوره للعدالة. فكل من يتمتع بخيرات أو حقوق مجتمع ما، عليه المشاركة في واجبات والتزامات هذا المجتمع. ويحدد (رولز) دور العدالة باعتبارها فضيلة من فضائل المؤسسات السياسية والاجتماعية، التي يكمن دورها في تخصيص الحقوق والواجبات وتوزيع السلع. وهنا يطالب بحصول جميع أفراد المجتمع على السلع الأساسية نفسها التي تلغي الفوارق التي قد تكون موجودة، منذ مولد الإنسان، وبداية حياته. ويرى أن تُوزّع الممتلكات الأساسية طبقاً لمبدأين:

الأول: ضمان التوزيع العادل للحريات الأساسية والحقوق الأساسية.

والثاني: إن الأفراد الذين يتمتعون بالقدرات والمهارات نفسها يجب أن يتمتعوا بفرص متشابهة. وتشمل الفرص المتشابهة، المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بما يعني أننا إزاء عملية متكاملة تتناول العدالة في تلك المجالات بما يبرر التكامل فيما بينها وبين التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

فالعدالة الاجتماعية تتبدى في إعطاء الفرد ما يستحقه، وتوزيع المنافع المادية لأفراد المجتمع كافة وتوفير احتياجاتهم،الأساسية، مما يعني أيضاً، المساواة في الفرص، فلكل فرد فرصة في الصعود الاجتماعي.

ويتطلب تحقيق العدالة الاجتماعية القضاء على الفقر وتوفير فرص العمل للمواطنين كافة، وضمان حق الراحة للعاملين، ونشر العلم والقضاء على الأمية، والضمان الصحي المجاني، وضمان حق التقاعد المناسب للعاملين في الدولة والقطاع الخاص. ومن أجل ضمان العدالة الاجتماعية بعناصرها المختلفة ينبغي توفير الحرية الفكرية العامة في البلاد، وضمان حق الرأي والقول، وحق المعتقد، وإن المساس بأي من هذه الحقوق يعرّض العدالة الاجتماعية لعدم المصداقية.

أما العدالة السياسية، فتتمثل في توفير الحياة السياسية وضمان الحقوق السياسية للمواطنين كافة. بحيث لا تتحول مؤسسات الدولة إلى أداة في ممارسة الظلم والقهر والتهميش والتمييز تجاه بعض المواطنين، وألا يحدث استئثار بالسلطة، وأن تتاح الفرص المتكافئة لجميع المواطنين لممارسة حقوق المواطنة وحرية الرأي.

وتتمثل العدالة الاقتصادية في تحقيق العدالة في توزيع الدخل بين الأفراد، وأن يضمن النظام الاقتصادي أحد حقوق الإنسان الرئيسية وهو (الحق في التنمية).

العدد 1102 - 03/4/2024