مفاتيح العودة

 لا يزال الحديث اليومي يتصاعد في الأثير السوري، ويتنقّل بين مئات ألوف البيوت السورية، يتلوَّن بأقلام (شهوة الهجرة) والتخلّص من وباء القتل والتخريب والخطف والهروب من الخدمة الإلزامية أو الاحتياطية أو مختلف الأسباب (الإرادية والقسرية والمعاشية والعلمية والغيرة من الآخر)، في هذه السنوات الملتهبة بالحماسة للاستقرار في بلدان مشتهاة منذ قرون، وتحقيق أحلام مستقبل آمن للأبناء.. سأطلق على هذه الهجرة اسم (تهجير السوريين) إلى (بلاد الله الواسعة)، وهي هدف من أهداف الفاسدين والسماسرة وتجار الأزمات والحروب ومن الذين يريدون أن تستمر الأزمة إلى إشعار آخر. وتشكل أحد مرتكزات الاستراتيجية الرأسمالية والبلدان الصناعية الكبرى، لتفريغ سورية من العقول والعناصر الشابة.. وتحسين ديموغرافية أوربا وإنقاذها قبل أن تتحوَّل إلى عجائز..!

إن الفلسطينيين منذ التهجير الكبير عام نكبة 1948 لا يزالون يتوزعون وينتشرون في القارات الخمس، ويحتفظون بمفاتيح بيوتهم ومحالهم ودكاكينهم.. وأن كثيرين منهم لم يُزيلوا الصدأ عنها حُبَّاً بها وتركوها كما كانت، للحفاظ على رائحة المكان وذاكرته.. وآخرون يعلّقون صور منازلهم (بالأسود والأبيض) في سياراتهم وصدور منازلهم (الكئيبة أو الفلل الفارهة.. وعلى أبواب مزارعهم ومعاملهم.

إن الحديث عن الهجرة في هذه السنوات الأليمة لا يقاوم أبداً.. ولكن كثيرين وربما مئات الألوف من الذين لا يملكون المال الذي يؤمن لهم الوصول إلى بلاد الهجرة، ومن الذين باعوا بيوتهم وعفشهم والأدوات الكهربائية وكل شيء، أن يجيبوا عن السؤال: هل حملتم معكم مفاتيح بيوتكم إلى بلاد المهجر، وإذا نسيتم أن تذهبوا إلى السبَّاك للحصول على نسخة منها، فهذا خطأ أنتم تتحمَّلون المسؤولية عنه. أما إذا فعلتم ذلك فأنتم لن تنسوا ذاكرة المكان وأحلام العودة إلى بلدكم الذي يسكن في قلوبكم إلى أبد الآبدين؟

لقد بيَّنت الرسائل والخطابات عبر شبكات التواصل بين المهاجرين وما بقي من ذويهم ومع الأصدقاء، أن فرحاً عظيماً يملأ صدورهم، فهم يرسلون صور المنازل الموهوبة لهم.. وصور الخيام وصالات الرياضة والمعسكرات الجماعية، وما يفوح منها من روائح وكآبة وحبس ومراقبة كأنهم محكومون بالسجن المؤبّد، ويقدّمون لهم وجبات طعام مقننة محسوبة بالغرام، وأسرّة  مثل نقَّالات الإسعاف، مصنوعة من قماش وحمَّالات قوية لحمل أصحاب الأوزان الكبيرة.

لا أريد هنا أن أشوّه فرح الذين لم يصدقوا أنهم اجتازوا الحدود بأمان، ولا بمن غرق أو سيغرق (لا سمح الله) في الأيام القادمات في بحر إيجة ومرمرة أو في البحر الأبيض المتوسط.. وصاحب العمر الطويل، ومن كان عطوفاً ومتسامحاً، ويقبّل أيدي والديه في الصباح والمساء، سيصل (حتماً) إلى إحدى الجزر اليونانية المهجورة أو المسكونة.. ومن له حظ وافر أو فائض ولم يستخدم اللؤم يوماً ما أو أنه لا يحمل شهادة (دبلوم في النميمة)، أو دكتوراة مزوّرة من معاهد وراء البحار والمحيطات، وأراد أن (يبيّض الفال)، ويقف إلى جانب أصحابه ويؤازر الفقير والضعيف ويدافع عنهم. وأن من حصّن نفسه بالدولار في رحلة المخاطر سيزيح عن كاهله كثيراً من المتاعب والسير على الأقدام، فيستقل القطار أو الطائرة ويتكرَّم بوافر الدولارات للسماسرة السوريين واللبنانيين والأتراك. ويكون أوفر حظاً من المهاجرين الذين يحملون جُعَبْ التفاؤل في رؤوسهم وجيوبهم خالية.. كثيرون – كما أسرّ أهلهم –  تمزَّقت أحذيتهم في مسير طويل يقدّر بمئة كيلو متر..! كل التمنيات لمن لن ينسى أحلامه تغرق في المياه العميقة.. وما على هؤلاء إلاَّ أن يتذكروا هذه العبارة من تاريخ الهجرات

(إنَّ الحفاظ على مفاتيح البيوت في القلوب أفضل بكثير من تعليقها في الأعناق وهي صدئة..!)

العدد 1107 - 22/5/2024