التشاركية ضرورة.. ولكن…

 دخلت الأزمة السورية عامها السادس وسط تمنٍّ وتفاؤل بإحراز تقدم ملموس في التوصل إلى حل سياسي، بتوافق محلي إقليمي دولي يضمن وحدة سورية ضمن نظام وطني ديمقراطي تعددي يتولى معالجة جذور هذه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية، وآثارها، وفق رؤية وطنية جامعة، في أقصر وقت وأقل كلفة وأكثر كفاءة.

الخسائر التي منيت بها سورية، وطناً وشعباً، نتيجة هذه الأزمة بلغت أرقاماً هائلة تصدمنا في كل يوم بتقرير أو تصريح لجهة محلية أو إقليمية أو دولية. وتتباين هذه الأرقم بين 255 مليار دولار حتى عام 2015 حسب تقرير المركز السوري لبحوث السياسات، لتصل حسب تقرير أسترالي صدر قبل ايام إلى نحو 685 مليار دولار أمريكي بموجب (السيناريو الأكثر تفاؤلاً)، في حال إعلان وقف النزاع في سورية خلال هذا العام، إذ ستبلغ الكلفة الاقتصادية للحرب أكبر بـ 140 مرة من تقديرات منظمات الأمم المتحدة والدول المانحة لسد الاحتياجات الإنسانية داخل سورية. ويشير التقرير الأخير إلى أن الكلفة الاقتصادية للحرب قد ترتفع إلى 1,3 تريليون دولار أمريكي في حال استمرارها إلى عام 2020.

هذه التقارير والأرقام تعطي صورة تقريبية أو تأشيرية عن آثار الأزمة وكلفتها مشيرين إلى ما أكدناه سابقاً ونؤكده مجدداً حول ضرورة قيام الجهات العامة والخاصة والأهلية المعنية في سورية بالإعلان عن أرقام وطنية رسمية – إن وجدت – وتدقيق المنهجية المعتمدة في استخلاص النتائج والأرقام التي نسمعها أو نقرؤها بين الحين والآخر، ومناقشتها، للوقوف بشكل صحيح وواضح على آثار الأزمة والأولويات التي يجب اعتمادها لمعالجتها حالياً ومستقبلاً.

من المؤكد أن سورية بظروفها الحالية وإمكاناتها الذاتية المادية والبشرية غير قادرة أو غير مؤهلة، منفردة، على إنجاز مهمة إعادة البناء والإعمار بالشكل والوقت المناسبين، خاصة إذا أخذنا بالحسبان أن المطلوب لا ينحصر في إعادة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية كما كانت عليه قبل الأزمة، أو تعويض ما كان ممكناً تحقيقه لولا حدوثها وحسب، بل المطلوب أيضاً تحويل الأزمة إلى فرصة لإعادة هيكلة الاقتصاد السوري بمختلف قطاعاته وفق استراتيجية تنموية شاملة ورؤية وطنية جامعة يقرها النظام الديمقراطي التعددي الجديد، الذي عليه تعبئة قدرات السوريين وإمكاناتهم المادية والعلمية، على اختلاف انتماءاتهم، والاستفادة من مختلف أنواع الدعم الإقليمي والدولي من أصدقاء مختلف الفرقاء الوطنيين في سورية الجديدة، دون إغراقها بمديونية كبيرة ترهقها وترهق الأجيال القادمة، بحيث تتحول سورية خلال سنوات عشر قادمة إلى دولة بازغة، كالعديد من البلدان التي خرجت من أزماتها وحروبها إلى مستوى متقدم من التطور والنمو.

ومن هنا تغدو التشاركية مع القطاع الخاص الوطني أولاً والأجنبي تالياً ( في مجالات محددة يتم التوافق حول أهميتها وأولويتها) ضرورة وطنية، باعتبارها الحل الأقل كلفة والأكثر سرعة وكفاءة لإنجاز المهام المطلوبة. فالخيارات اليوم وفي مرحلة إعادة البناء والإعمار أيضاً ليست خياراً سهلاً بين اللون الأبيض والأسود، بل هي في الواقع وعلى الأغلب اختيار (براغماتي) عملي وصعب بين تدرجات اللون الرمادي، بمعنى آخر اختيار الحل الأقل خسارة أو الأقل سوءاً الذي يحقق الأهداف الموضوعة.

لكن ما سبق ذكره يجب ألا يبعد عن الأذهان والاهتمام حقيقة أن خيار التشاركية تشوبه محاذير ومخاطر عديدة، لابد من أخذها بعين الاعتبار، واتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لمواجهتها، وضمان عدم نسف الأهداف الوطنية المرجوة منها، أو حرفها بتحويلها إلى ممر وأسلوب متجدد للفساد والتفريط بالمال العام والمرافق والثروة الوطنية، لحساب فئة قليلة اعتادت على تفصيل القوانين على مقاسها ووفق رغباتها ومصالحها، وهو ما ساهم ببروز الأزمة الحالية واستمرارها ، آخذين اليوم بعين الإعتبار أن الوضع والفرص الاستثمارية في مختلف القطاعات اتسعت بشكل لا يقارن بوضع ما قبل الأزمة، خاصة أن الأفواه كبرت والبطون اتسعت والكعكة كبيرة ومشهّية، ما سيدفع كل طامح إلى فعل المستحيل من أجل الحصول على أكبر حصة منها وبمختلف السبل سواء بإمكاناته الذاتية أو بشراكته مع، أو رعايته من، مراكز قوى محلية وإقليمية ودولية، ذلك أنه من المحتمل أن يكون تقاسم هذه الكعكة وتوزيعها بين تلك المراكز وشركائها أحد أسباب توافقها على تسوية الأزمة بخلفية تشاركية…

إن من أهم مهام الهيئة التشريعية والرقابية في النظام الوطني الديمقراطي التعددي الجديد، ومعها هيئات المجتمع الأهلي ومؤسساته ، ضمان الشفافية في تنفيذ التشاركية، سواء لجهة عدم التفريط وعدم التنازل عن المرافق الأساسية والقطاع العام الناجح، أو لجهة ضمان النزاهة والسلامة في الإجراءات التنفيذية لهذا التوجه، وبضمن ذلك عملية طرح المشاريع وتلزيمها واختيار ممثلي الجهات العامة المشاركين في إدارتها والهيئات التشاركية الأخرى ذات العلاقة، آخذين بعين الاعتبار التجربة الحالية والسابقة غير الموفقة في معظم الحالات في تسمية ممثلي الجهات الحكومية في مجالس إدارة شركات وهيئات القطاع المشترك.

التشاركية – مع احترام آراء الرافضين والمتحفظين عليها كلياً أو جزئياً، ومواقفهم ومخاوفهم – هي من أهم الأدوات التي من شأنها المساهمة السريعة والفعالة في معالجة آثار الأزمة ونتائجها بالوقت والكلفة والنوعية المتميزة المطلوبة، لكنها إذا لم تُدَر – في الوقت ذاته – بالشكل المطلوب وبالاستفادة من دروس وعبر الماضي والحاضر وتجارب الدول الأخرى المشابهة، ستشكل نكسة كبيرة لآمال كل الذين عملوا من أجل نظام وطني ديمقراطي تعددي، وسوف تزرع بذور أزمة قادمة قبل أن ننسى آثار أزمتنا الحالية ونتائجها.

العدد 1105 - 01/5/2024