همنغواي والبراعة الفنية في إبداعاته

في (أوك، إلينوي) ولد أرنست همنغواي عام 1898 وقضى معظم سنوات حياته الأولى في منطقة البحيرات العظمى التي دارت فيها أحداث قصصه الأولى. وإذا قرأنا سجل جراحه نجد: (لقد تطوع في الحرب العالمية الأولى وهو دون العشرين، وحارب في الجبهة الإيطالية وجرح فيها، ثم تطوع في الحرب الأهلية الإسبانية، وفي الحرب العالمية الثانية رافق الجيش الأول في فرنسا وألمانيا، ثم دخل باريس على رأس فرقته. في عام 1954 سقطت به طائرته في وسط إفريقيا وهو يصيد الأسود والثيران الوحشية، وحين وصل إلى نيروبي قرأ قصة نعيه في معظم الصحف)

خاض همنغواي حروب القرن العشرين في إيطاليا واليونان وإسبانيا وبريطانيا، هذا بجانب مغامراته الأخرى وحملاته الخاصة. لقد تطلع إليه الشباب الثائر كرمز للجهاد من أجل الحياة، واعتبره الكتاب منقذاً لأدبهم من لغة المجتمع البالية، فكان بذلك مثلاً أعلى لهم في التجديد والجودة..

وحاز همنغواي في كل مكان حتى في روسيا إعجاب الكتاب المعاصرين، لصراحته المعهودة وكتاباته التي تتسم بالوضوح وتفيض بالموسيقا.

واعتبره الإيطاليون مطهراً للغة الأدب من الأدعياء وزيف الخطابة.

 

 كان همنغواي كاتباً وصحفياً، فقد انعكست هذه النزعة الصحفية على حياته وأغرم بمصارعة الثيران، وكان يتبع مبارياتها، ويصادق مشاهير المصارعين ويؤرخ لحياتهم، ويستمد منهم شخصيات رواياته حتى إنه ألف عنها كتاباً، لا رواية، وسمى الكتاب (الموت بعد الظهيرة) لأن من طقوس مصارعة الثيران. أن تتم مبارياتها في الساعة الخامسة بعد الظهر..

وقد لام كثير من النقاد همنغواي على تأليف هذا الكتاب، وقال بعضهم (ما بال هذا الكاتب الروائي الذي انفتحت له أبواب المجد حين كتب روايته (الشمس أيضاً تشرق) ينحرف بموهبته إلى تأليف دليل سياحي؟ كان همنغواي يرى في مصارعة الثيران معنى غريباً ينسجم مع حياته هو، وتحديه للموت ومواجهته في كل لحظة.

كان يرى أن الثور يمثل الحياة التي تتنفس على هذه الأرض. الحياة بكل ما فيها من وحشية وقسوة وغضب وحقد وهي الحياة التي لا بد أن يواجهها الموت ويقهرها، أما المصارع فهو القدر الذي يمنح الموت لهذه الحياة، ويؤدي آخر شعائر تقديم الموت إلى ضحيته، ويسقي الثور كأسه الأخيرة…

كوّن همنغواي صداقات بسهولة، فمن أولئك الذين شجعوه على الكتابة كان إزراباوند، غير ترود ستاين وفورد مادوكس فورد. تحوي مجموعته القصصية الأولى (زمننا) خمس عشرة قصة يحكي بعضها تجارب الشاب نك آدامز في منطقة البحيرات العظمى وأوربا. وظهرت روايته الأولى (سيول الربيع) عام 1926 أما روايته الثانية التي جعلته شهيراً، فكانت (الشمس تشرق أيضاً)، التي تتحدث عن خيبة الجيل الضائع، المغتربين الإنكليز والأمريكان الشباب في فرنسا وإسبانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ثم نشر في مجموعة قصصية بعنوان (رجال بلا نساء) في وحدة الإسعاف الإيطالية خلال الحرب العالمية الأولى.

أما (تلال أفريقيا الخضراء) فتدور حول صيد الحيوانات الكبيرة. و(أن تملك أو لا تملك) تدور حول التهريب في منطقة كي وست، هافانا، والمجموعة القصصية (الطابور الخامس وأول تسع وأربعين قصة) عام 1938تتضمن قصة كليمنجارو. و(لمن تقرع الأجراس) عام 1940وهي رواية طموحه، ويرى أن الانتقاص من الحرية في مكان ما هو انتقاص لها في كل مكان. أما في (الشيخ والبحر) عام ،1952 الحكاية الرمزية التي تتحدث عن الشجاعةوالقوة الداخلية للإنسان من خلال قصة صياد سمك كوبي عجوز في صراعه لكي يوصل سمكة مارلين كبيرة اصطادها إلى الشاطئ. فليست قصصه ورواياته سوى سجلات حافلة لحياة العنف التي عاشها، وقد استخدم همنغواي كل مواهبة ليعبر بصدق وإخلاص عن طريق قصصه ورواياته عن روح العصر الذي عاش فيه، وهمه أن يترك في الناس أثراً خلقياً ويحدد لهم منهج الحياة، فقد كان القرن العشرون هو المشكلة التي حاول همنغواي أن يجد حلاًّ لها.

فهو يعرض لنا رأيه قائلاً: (ليس عندنا كتّاب كبار ولا أدري ما يحدث لهم في سن معينة، فيتحولون إلى أشياء غريبة… إننا نقضي عليهم بطرق شتى). ثم يقول عن نفسه (إني مغرم بأشياء غير الكتابة، إني أعيش عيشة طيبة، ولكن علي أن أكتب لأني دون الكتابة لن أستطيع أن أستمتع بالبقية الباقية من حياتي).

لقد أوتي همنغواي القدرة على التعبير عن العالم الطبيعي بطريقة محسوسة، ونجد فورد.م ممتدحاً أسلوب همنغواي بقوله: (إن كلماته لأشبه بحبات الحصى خرجت لتوها من قاع الجدول، فهي تتألق كالدرر النفيسة وكل صفحة من كتاباته صافية صفاء ماء الغدير تستطيع أن تصل خلالها إلى جوهر الموضوع.)

ولا عجب إذا وجدنا أسلوب همنغواي في معظم قصصه يتصف بالاتزان وبالألفاظ الموسيقية والتراكيب الهندسية المنمقة.

ولكن همنغواي لم يكن ليقتنع بإنقاذ فنه أو صقل أسلوبه، فكان كثيراً ما يمتدح نفسه ويتحدث عن الكتابة (الجيدة الصادقة) وكأن غيره لا يستطيع إتقانها، فقد كان يطارده عملاق جبار التطلع إلى الشهرة والرغبة في أن يصبح شخصية عالمية.

كان ملكاً غير متوج في الصحف والمجلات، ولكنه ملك دون سلطة فقد كان في قلق دائم، إن كل ما حققه من أعمال ناجحة هي من صنع الشاب الذي تحرر من الأغلال. وأصبح وحيداً في الحقل أو على صفحة الماء، وأصبح الشاب رجلاً عجوزاً يصطاد في عرض البحر. وكان يردد بارتياح كلمات ستونوول جاكسون التي قالها قبل موته (علينا أن نعبر النهر ونرتاح في ظلال الأشجار)!

أما موقفه من الحرب، فقد كره الحرب برغم أن معاركها هي المادة الرئيسية لروايتيه العظيمتين (وداعاً أيها السلاح) و(لمن تقرع الأجراس) ولم يجد همنغواي في الحرب حرفة من حرف الرجولة، كان يتقبلها بتقزز واشمئزاز، ولكننا نجده يقول: (ماذنبنا… أننا إذا دخلنا معركة فإن علينا أن ننتصر فيها… مهما كانت قذارة المعركة، لأن انهزام قوى الشر، والتخلي لها عن مكاننا أكثر قذارة من الحرب.

وآه.. لو كنا نستطيع أن نكسب الحرب دون أن نطلق الرصاص على أحد)!

مُنح همنغواي جائزة نوبل للأدب، وفي سنوات حياته الأخيرة عانى من تراجع في قواه الفنية الجسدية، وانتحر في الثاني من تموز عام ،1961 وترك وراءه (وليمة متحركة) وهي عبارة عن مذكراته في باريس في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، ثم نشرت عام 1964 (جنة عدن) عام 1986 بعد موته، و(الصيف الخطير) وهي عبارة عن عرض لرحلته إلى إسبانيا عام 1959.

رغم أن همنغواي متحدث رائع وفكه ولديه مخزون هائل من المعلومات حول المواضيع التي تهمه، فإنه يجد الحديث عن الكتابة صعباً. ويحس بعمق أن الأفكار المتعلقة بالكتابة يجب أن تبقى طي الكتمان، ويرى أن الكتابة هي عمل خاص وشخصي يؤدي إلى عزلة الكاتب دون الحاجة إلى شهود حتى إنتاج الشكل الأخير للعمل. هذا الإخلاص التام لفنه يوحي بشخصية متناقضة مع شخصية همنغواي المنطلق، صعب المراس، الذي لا يحمل هماً، والتي شاعت في أذهان الناس، والحقيقة هي أن همنغواي، رغم تمتعه الواضح بالحياة، فإنه يكرس نفسه بشكل كامل لكل ما يفعل. إنه جدّي، يرعبه ويبتعد عن كل ماهو غير دقيق وغير ناضج، فهو دائماً يعيد كتابه الجزء الذي كتبه في اليوم السابق، فقد كتب نهاية (وداعاً للسلاح) الصفحة الأخيرة منها، تسعاً وثلاثين مرة قبل أن يشعر بالرضا ويرى بأن عملية إعادة القراءة هي التي تدفع الكاتب لمتابعة الكتابة. و(لمن تقرع الأجراس) كانت مشكلة بالنسبة لهمنغواي فقد كان يعالجها يوماً بيوم، وكان يعرف ما سيحدث من حيث المبدأ، وكان يخترع ما سيحدث بشكل جيد فإنك تمنحه الخلود، هذا هو السبب الذي يدفعك للكتابة، ولا أعرف سبباً آخر.

عُرف همنغواي بكراهيته للسياسيين ونزعته الفردية شديدة الحساسية متعاطفاً، على نحو عميق مع اليسار وخصوصاً اليسار الثوري، غير أن هذا الجانب من سيرة حياته تعرّض إلى التجاهل، بل والتشويه أحياناً، ومع ذلك تظهر حياة همنغواي وعمله في الصحافة وكتابته البارعة في مجازاتها، صلة بالقضايا السياسية منذ طفولته، وظل يعبر في العشرينات والثلاثينيات عن قلقه من مخاطر الهيمنة الأيديولوجية أو الحزبية على العملية الإبداعية، وتجلى هذا القلق في رسائله إلى بعض الكتاب، مثلما تجلى في عدد من أعماله، وبينها مثلاً (موت في الظهيرة) و(تلال أفريقيا الخضراء) وعلى الرغم من تناقضاته، ونزعته الفردية، وارتيابه بالسياسيين كان همنغواي يقف دائماً، على اليسار فهو الذي دعم الثورة الكوبية وقبّل العلم الكوبي عند وصوله إلى كوبا بعد مرور سنة على الثورة الكوبية، وهو الذي قال: (إنني أثق ثقة مطلقة بثورة كاسترو لأن الشعب الكوبي يدعمها، إنني أؤمن بقضيته).

العدد 1105 - 01/5/2024