صناعة الرمز.. طريقة فعالة للاستحواذ على الأرباح الخيالية

يحتاج كل مجتمع إلى الأساطير، أي تلك الحكايات البسيطة التي تساعد الناس على التعامل مع حالات التوتر في حياتهم، واليوم تتفوق العلامات التجارية القوية في تقديم هذه الأساطير. إن بعض العلامات التجارية تتحول إلى رموز، مثل نايكي وفوكس فاجن.. إنها علامات تجارية ينظر إليها كل رجال التسويق بالرهبة، ويمدها احترام زبائنها الأساسيين بالقدرة على الحفاظ على موطئ قدم راسخ في السوق لسنوات عديدة.

وليس هناك فكرة على أي حال، إلا عند القليل من رجال التسوق عن كيفية تحويل علاماتهم التجارية إلى رموز، وذلك لأن بناء الرموز يتحقق على أساس مبادئ تختلف كلياً عن المبادئ التي يرتكز عليها التسويق التقليدي.

وتكسب هذه العلامات التجارية معارك المنافسة لا لأنها تقدم مزايا فريدة وخدمة موثوقة وأساليب تقنية ابتكارية (على الرغم من أنها قد تقدم كل ذلك معاً)، لكنها على عكس ذلك، تحقق نجاحاً لأنها تقيم صلة عميقة بالثقافة، وفي الأساس فإن هذه الشركات تتنافس على الحصة الثقافية.

إنها عبارة عن شكل من أشكال المنافسة التي تحتدم على وجه التحديد في مجال يطلق عليها المسوقون اسم فئات نموذج الحياة، مثل الطعام، والملبس، والسيارات وغيرها، إن العنصر الأهم هو الرمزية، أي أن التركيز الاستراتيجي ينصب على الهدف الذي تقوم على أساسه العلامة التجارية، وليس على الأداء الذي تحققه، وهو الشكل الوحيد من أشكال المنافسة الذي يولّد الرموز، وتُبنى القوى السوقية المؤثرة لتلك الرموز على نوع من القيم التي يحققها الزبون، والتي لا ننتبه إليها في أغلب الأحيان، فالرموز تستمد قيمتها من حقيقة أن الناس ينفذون من خلالها إلى تجربة الأساطير المسيطرة.

ولا تعتبر صناعة الأسطورة نوعاً من المهارة التي يكتسبها رجل التسويق في معرض مناداته على بضاعته في الشوارع، ومع ذلك فهي ليست عملاً اعتباطياً أو غامضاً، إذ يمكن لمنتج يبدو قليل الشأن أن يحوز على قوة رمزية ويحافظ عليها.

عملية صناعة الرمز

لطالما احتاج الناس إلى الأساطير، إذ تساعدنا بوضعها حكايات بسيطة بشخصيات أسرية وحبكات مدوية، إنها تمدّنا بالمثل العليا لنعيش بها وتساعد في حل أسئلة الحياة المحيرة. والرموز ما هي إلا أساطير مغلفة، وهي تستمد قوتها من أنها تزودنا بأساطير ملموسة، الأمر الذي يجعلها أسهل منالاً.

وليست الرموز مجرد علامات تجارية، بالطبع، فكثيراً ما تكون أشخاصاً، إذ إننا نجد الرموز بين أنجح رجال السياسة، على سبيل المثال رموز من أهل الفن كمارلين مونرو، ومن الناشطين السياسيين من أمثال مارتين لوثر كينغ وغيرهم من المشاهير، كالأميرة ديانا، ويشعر الناس أنهم مجبرون أن يجعلوا من هذه الرموز جزءاً من حياتهم، ذلك أنهم يستمدون من هذه الرموز القدرة على تجربة الأساطير القوية باستمرار، وعلى الشاكلة نفسها تعمل العلامات التجارية الرمزية.

عندما تخلق العلاقة التجارية أسطورة ما، يشرع المستهلكون في أغلب الأحيان عبر الإعلانات التجارية، باعتبار الأسطورة مجسدة في المنتج، لذلك يشترون المنتج لاستهلاك الأسطورة، ولبناء علاقة مع (صانعها) أي العلامة التجارية. ويطلق علماء الإنسان على ذلك اسم (العمل الشعائري)، فعندما يرتدي الزبائن أحذية جوردان لشركة نايكي، فإنهم يلجون إلى أسطورة يانكي عن (الإنجاز الفردي عبر المثابرة).

لا تتضمن العلامات التجارية الرمزية، كما يشير المثال السابق، مجرد أسطورة كيفما اتفق، وإنما أساطير تحاول إزالة حالة التوتر الحاد الذي يشعر به الناس بين حياتهم الخاصة والإيديولوجيا السائدة في المجتمع، وتنتشر هذه التوترات على نطاق واسع. إن أي إيديولوجيا، تقدم بطبيعتها ضرورات أخلاقية تحمل في طياتها تحديات: إنها تعرض الرؤية التي تطمح إليها أية فئة اجتماعية، ولكن تعيش العديد من الفئات الأخرى والعديد من الناس بمنأى كبير عن تلك الرؤية بشكل حتمي، إن التناقضات بين الإيديولوجيا والتجربة الفردية تنتج رغبات ملحة وحالات قلق شديدة تذكي الطلب على الأساطير.

ويؤدي هذا الطلب إلى نشوء ما يسمى أسواق الأساطير، وفي هذه الأسواق تتنافس العلامات التجارية على اكتساب صفة الرمز، يتنافس في سوق الأسطورة طيف واسع من المنتجات الثقافية على تقديم أكثر الأساطير تأثيراً، ويتحول الرابحون في هذه الأسواق إلى رموز، إنهم صانعو أعظم الأساطير، فهم ينعمون بنوع من التعظيم الذي يسبغ على أولئك الذين يتمتعون بقوة نبوئية وكاريزمية لازمة لتوفير القيادة  الثقافية في أوقات تعاظم الحاجة إليها، وفي العادة وفي الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، يخلق أولئك الرابحون في أسواق الأساطير أسطورة التمرد.

الاعتماد على المعرفة الثقافية

تعد المعرفة الثقافية ضرورية في بناء الرمز، ومع ذلك، فإنها غائبة بشدة عن مجموعة الأدوات التي يتسلح بها مديرو الشركات، لقد أعطت حملات (اشرب ديو) مفعولها، لأن صانعيها استطاعوا الوصول إلى فهم الحصر النفسي عند العمال ذوي الدخل المحدود.

لقد حققت هذه الحملات أهدافها المنشودة، عندما تتفكك الثقافة الوطنية ويعاد تركيبها من جديد، تنشأ تناقضات جديدة، ويشكل ذلك فسحة من الأمل أمام الرموز التي هي في طور التشكّل، لكنه في الوقت نفسه يحمل أخباراً سيئة للرموز الموجودة مسبقاً، إذ إن العلامات التجارية التي تبدو مستقرة ومتماسكة غالباً ما تنزلق إلى أوضاع تفتقد فيها الأمان بشكل كامل، إن معظم العلامات الرمزية الناجحة يمكن أن تكون عرضة للتعثر.. لقد خرجت الكثير من الشركات من دائرة المنافسة لسنوات طويلة، إلى أن استطاعت إعادة ابتكار رمز أرجعها إلى سابق عهدها.

إن التحدي الأساسي لرجال التسويق الذي يواجههم هو القدرة على استقراء أفضل الطرائق في إعادة ابتكار أسطورة العلامة التجارية في وقت اشتداد حدة الفراغ الثقافي في المجتمع، ويتطلب القيام بذلك امتلاك المعرفة والمهارة التي قد يفتقدها الكثير من رجال التسويق. إن التنبؤ بالتناقضات الجديدة واختيار واحد منها، والعمل على فهم مميزات روح التمرد عند المستهلك بشكل عميق، وبما يكفي لبناء أسطورة جيدة تتمتع بالمصداقية والقدرة على التحريض، إن ذلك هو ما يتماشى مع السلطة السياسية للعلامة التجارية.

إن هذه المعرفة تأتي من الفهم الثقافي للإيديولوجيا في فترات القوة والضعف التي تمر بها، ومن فهم النسق الذي يحدده علماء الاجتماع لطبوغرافيا التناقضات التي تولدها الإيديولوجيا، وبالتالي وفي سبيل بناء أساطير فعالة، قادرة على استحواذ أفكار المستهلكين، وتحقيق الأرباح الكبيرة، يجب الاقتراب من الثقافة، وهذا يعني النظر إلى ما هو أبعد من الفهم الحالي لجمهور المستهلكين.

العدد 1105 - 01/5/2024