«رولان بارت.. مغامرة في مواجهة النص»

يعد رولان بارت (1915  1985) من أهم أعلام النقد، ليس في فرنسا فحسب، ولكن خارجها أيضاً. إذ شغل الساحة الثقافية الفرنسية والأوربية والعالمية في النصف الثاني من القرن العشرين، وترك بصماته التي لا تمحى في النقد الأدبي المعاصر. وجاء بفيض مصطلحات نقدية حداثية، فأتاح لنا فهماً أعمق ورؤية أشمل لمفهوم الأدب وعناصره المكونة.

وكتاب (رولان بارت – مغامرة في مواجهة النص)، تأليف فرانك إيفرار وإريك تينه، وترجمة الدكتور وائل بركات، يظهر لنا تميز رولان بارت بالتنوع والانفتاح، فهو متنوع في موضوعاته ومتنوع في منهجه، فقد بدأ مع الموضوعاتية الباشلارية في كتابه عن ميشليه، ثم انتقل إلى التحليل النفسي المستمد من فرويد في مؤلفه عن راسين، وتحول إلى البنيوية في كتابه نظام الموضة.

تميز رولان بارت بحساسيته الغنية وقدرته العلمية الهائلة على اختراق ميادين معرفية وعلمية عديدة وتجاوزها (علم الاجتماع، علم النفس، الفلسفة، الإثنولوجيا، والإنتربولوجيا، اللسانيات، نظرية المعرفة).

ويتضمن كتاب (رولان بارت مغامرة في مواجهة النص) أبواباً وفصولاً غنية حول النقد الجديد والنقد القديم، كالنقد الجامعي، والنزاع في السوربون، وأبحاث حول الكتابة. والأدب والواقع، والأدب المستحيل، والعمل الأدبي كموضوع بنيوي، وطوباويات: العلم الأدبي وإلغاء اللغة الواصفة، ثم الوقوف عند اللغة. ولذة النص، وفضاء النص، ونسيج النص، والدلالة الإيحائية وتعددية النص، ومناهج التحليل النصي. والمحاولة السيميائية، ثم أوضاع الأسطورة وتضليلاتها. وحلم إمبراطورية العلامات.

بدأ رولان بارت ماركسياً عنيداً، ثم أصبح أحد أعلام الشكلانية ودعاتها في دفاعه عن آلان روب غرييه. والرواية الجديدة. ومن بعدها انتقل لينظر لمفهوم المتعية في لذة النص. واهتم بالدلالة فالدلالة برأيه عندما تعالج منظومات لها أبعاد اجتماعية عميقة ستمر عبر اللغة، ولن تكون السيميائية أكثر من فرع خاص يشتغل بمنظومات ذات أهمية متفاوتة، وبناء على ذلك يمكن للسيمائية أن تفيد كثيراً من علمية اللسانيات.

ولقد أثارت طروحات بارت اعتراضات التقليديين ضده، وأدخلته في صراعات طويلة معهم كان أهم مظاهرها معركة السوربون مع أعلام النقد الجامعي والكلاسيكي. ولكنه استطاع أن يثبت قدميه كرائد في النقد الحديث. وأن يقدم نظرياته المعرفية إلى الثقافة العالمية.

إن كتاب (رولان بارت مغامرة في مواجهة النص) دراسة معمقة للفكر البارتي، واستخلاص عبارة ما أبدعه هذا العالم الكبير.

كتب رولان بارت نصه الأول على هامش كريتون، الذي نشر في مجلة القوس عام 1974 ولاقت أولى كتاباته المنشورة صداها، وهي تحمل عنواناً مثيراً هو وجود (بالجمع) وفيها دراستان، الأولى حول سيرة أندريه جيد، والأخرى عن رواية (الغريب) لألبير كامو التي كانت النواة لكتابه (الدرجة صفر للكتابة)، وتأثر رولان بارت في تلك الفترة بالأفكار الوجودية وبجان بول سارتر.

أما كتابه الثاني عن ميشليه الذي نشر عام 1954 فيدين كثيراً للنقد الموضوعاتي.

لكنه سيبدأ مع (أسطوريات) – 1957 المغامرة السيميولوجية التي ستستمر نحو عشر سنوات. وعندما ظهر كتابه (نظام الموضة) عام 1967 وحكم بارت على نصه بأنه متجاوز وهو تطوير وتعميق لمؤلفه عناصر السيميائية ،1965 فبعد نظام الموضة الذي رسخ أهمية السيميائية ظهر كتابه (إمبراطورية العلامات) وربطها بممارسة الكتابة المقطعة في أعماله (لذة النص)، ويقترب رولان بارت في (فصول من خطاب غرامي) أكثر فأكثر من الطروحات التفكيكية التي قدمها جاك ديريدا، ومن التحليل السيميائي الذي طورته جوليا كريستيفا. أما نصه الأخير (الغرفة المضيئة) – 1980 فهو تأملات عن التصوير والزمن والموت.

جعل رولان بارت النقد واحداً من أشكال الأدب، ومن فن الشعر إلى نقد وحقيقة. وفي مقالته نقد وحقيقة التي يرد فيها على انتقادات ريمون بيكار وتلخص تجربة النقد الأدبي بقوله: (لا تتعلق موضوعية الناقد الأدبي باختيار الشيفرة، ولكن بالدقة في اختيار النموذج الذي سيطبقه على العمل الأدبي).

كما يعارض بارت فكرة المعنى الحرفي للعمل الأدبي التي تصل ذروتها في النقد الوضعي. وهو لا يعترف بوجود موضوعية ثابتة للعمل الأدبي، فيرى أن معنى العمل الأدبي بإظهار الآلية الدالة على العمل الأدبي، ويعد اكتشاف اللاشعور الكشف الأهم في هذا القرن.

أما الماركسية، فقد قدمت لنا قوة العوامل الاجتماعية والتاريخية وحتميتها التي تسيطر على رؤيتنا العالم وتشكلها. وغولدمان مؤلف الإله الخفي يحاول أن يربط بين الإبداع الأدبي وبين الحياة الاجتماعية بعلاقة وثيقة، ويرغمنا علم اللسانيات على تغيير علاقتنا باللغة الدلالية.

وكان للبنيوية التي نشدها بارت جذور في علم الإنسان، وظهرت عام 1955 دراسة كلود ليفي شتراوس المعنونة بالتحليل البنيوي للسرد، التي طبقت النماذج اللسانية في قراءة الأساطير، ففتحت الباب أمام التحليل البنيوي للنصوص الأدبية. معتمداً على أعمال بروب، واستحالة قراءة النصوص دون اللجوء إلى علوم أخرى كاللسانيات وعلم التحليل النفسي وعلم الاجتماعي.

ولإقامة نظام وصفي للبنى السردية قادر على الأخذ بالحسبان شمولية الخطاب، اتبع بريمون بإدخاله مفهوم الاحتمال الروائي، وكذلك غريماس بمفهومه للعامل ومنهج بروب، فقد أفادا من أعماله وأسهما في إغنائها، أما بالنسبة إلى بارت فقد شارك في إضافة لبنته إلى هذا الصرح بتمييزه، في مقالته التحليل البنوية للحكاية، بين وظيفة وإشارة، وسيقر لاحقاً بأهمية اللسانيات البنيوية وبدورها في اكتشاف آفاق جديدة.

وفي باب كلمات  مفاتيح يقف رولان بارت عند اللغة ويطلق بحماس صفة الفاشية على اللغة، فاللغة نظام شرعي، واللسان استخدام لها وفق قواعد محددة يتجسد في نظام تركيبي.

واللغة هي عبارة عن معطيات النظام اللغوي من دون الكلام، هذا ما كتبه بارت في عناصر السيميائية.

أما الأسلوب فيعبّر استعارياً عن الشخصية الخفية للكاتب ومزاجه وطبيعته، فهو يحيل إلى البنية الشخصية المميزة للمؤلف وإلى ميوله.

والأسلوب جوهر وليس شكل، ولذلك نراه يتحول إلى تحليل دلالي هدفه احتواء الدلالات، وهذا الرفض للتعبيرية كان موضوعاً حاضراً دائماً في أعمال بارت.

أما الكتابة فهي الحرية والاختيار في نقطة التقاء المحورين الأفقي الممثل للغة والعامودي الممثل للأسلوب.

واللغة والأسلوب عنصران، والكتابة وظيفة: إنه العلاقة ما بين الإبداع والمجتمع، وهي معطيات اللغة الأدبية المحملة بالبعد الاجتماعي، كما أنه الشكل المختار ضمن إطاره الإنساني المرتبط بقضايا التاريخ الكبرى.

وكتاب بارت الدرجة صفر للكتابة يعتبر مرجعاً لما يمكن أن يكون تاريخاً للكتابة.

الذي يمتد بصلاته الخارجية إلى التاريخ الحقيقي والمجتمع، وكشفت الدراسة الأولى لبارت عن فهم ماركسي للأدب بوصفه مؤسسة اجتماعية.

ومنذ إن انتهت الكتابة الكلاسيية التي توظف نفسها لخدمة طبقة معينة تعددت أنواع الكتابات، وأصبح الكاتب ينحاز نحو خيار ما. وأصبح الأدب كتاب طقوس شعائرية وليس تصالحاً مع الذات. وأصبحت الكتابة فضاء لحرية غامضة بحيث يصير الكاتب أسير رموز التقاليد والماضي.

ويرى بارت وجوب التزام الكاتب بنتاجه الأدبي. فالكتابة فن طرح الأسئلة، وليست للإجابة عليها أو حلها.

وتتطلب الكتابة الأدبية كالفن الحديث بعموميته، امتلاك التاريخ وتصوره معاً. فهي بوصفها ضرورة تؤكد تمزق اللغات الذي لا ينفصل عن تمزق الطبقات، وبوصفها حرية هي وعي بهذا التمزق والجهد نفسه الذي يهدف تجاوزه.

وتتطلع الكتابة إلى سعادة الكلمات، ولهذا تتوق إلى لغة خيالية ذات نضارة من خلال استباق مثالي يطمح إلى كمال عالم آدمي جديد ولغة مصونة من الضياع.

والكتابة بوصفها معبرة عن الأسطورة الأدبية، هي اغتراب واختزال وخطاب تعسفي. فالكتابة الحرة في بداياتها هي بالنتيجة قيد يربط الكاتب بتاريخ والتاريخ.

بدوره مقيد، فالمجتمع هو سمة العلامات الواضحة للفن، التي تجر الكاتب بكل تأكيد إلى إلقاء ذاته، فالكتابة كالأسطورة تجمل اللغة وتتخذها أداة.

فهي توقف حركة المعنى لتفرض شكل قيمة ما. إن ما يميز الكتابة الكلاسيكية هو سرقة الدال من قبل المدلول.

العدد 1105 - 01/5/2024