الكابتن أبو نسيم

 كما تعلمون، الحديث في أي جلسة لا يحلو إلا حين تشتغل الغيبة والنميمة والقيل والقال. ولأني لا أفكر بالتعرض لما فعله الوزير المسؤول عن تنوير بيوتنا، ولا عما لم يفعله الوزير المكلف بحمايتنا من شراسة التجار، ولا حتى بالتعرض لأصغر بياع مازوت أو بياع فجل، ذلك أني أعلم أني قد أثرثر حولهم حتى ينبت الشوك على لساني دون فائدة ترجى، لكن المشكلة أن الثرثرة هي حاجة حيوية للجسم والدماغ، ولها فوائد لا تنكر في تخفيف خطر الإصابة بالجلطات، لذا سأضطر للحديث عن أول شخص أصادفه في الصباح، وهو بالمناسبة من الشخصيات المؤثرة في حياتي وحياة (دزينة ونصف) من السيدات الواقعات في منطقة سيطرته، وبلا حاجة الى مزيد من التشويق أصارحكم بصفته: إنه الكابتن أبو نسيم… وما أدراكم من هو أبو نسيم!؟ المهم أني قررت أن أتكلم عنه لأنه أولاً: لن يقرأ ما أكتبه، يعني مثله مثل المسؤولين الذين نكتب عنهم، وثانياً: حتى لو قرأه فلن يبالي، وهو من هذه الناحية يشبه المسؤولين أيضاً ! وأبو نسيم هذا رجل آدمي جداً، حتى أن الشعار الذي يردده أمامنا كل صباح: (أنا آدمي… فلا تجبروني على أن أصبح أزعر)! وطبعاً نحن لا نرغب أبداً بأن يصبح أزعر، خصوصاً أن حمولة الباص كلها من السيدات السريعات الانكسار، لذا تراهن جميعاً شديدات الحرص على مشاعره، ويتجنبن أية ملاحظة تشكك بأدائه، أو تجرح نزعة القيادة المتأصلة في نفسيته، والمستمدة من مركزه الحساس، فهو سائق لسيارة حكومية ومتحكم بمصير مجموعة من الموظفات أغلبيتهن يحملن شهادات عليا! وأرجو ألا تفهموا من كلامنا أننا نشكو منه – لا سمح الله – فهو بالعكس، رجل ظريف جداً ويتميز بعينين بريئتين كعيون الغزلان، ثم إنه يمتعنا كل صباح بأغنيات الشحرورة من الراديو، وخصوصاً أغنية (عالضيعة يالله عالضيعة ودّيني وبلا هالبيعة) ولم يغير هذه الأغاني طوال سنين، لدرجة أننا اعتقدنا أن صباح بنت ضيعته، أو أنه أحد أزواجها السابقين! ثم اكتشفنا فيما بعد أن هذه الأغنية تعبر عن حنينه الجارف الى ضيعته، هذا الحنين الذي يدفعه لتركنا ظهر كل يوم خميس وسط ازدحام المدينة لندبر رأسنا في السرافيس، لأن الأخ الحنون سافر بباص الشركة الى ضيعته، (ولمين بدنا نحكي قصتنا؟ يا مصيبتنا ويا جرصتنا…) هذا طبعاً عندما يكون آدمياً، أما حين نبدأ بإجباره على التخلي عن آدميته، فإنه يفتح لنا الراديو على نشرة الأخبار المحلية، حينئذ نعرف أن في الجو عاصفة، فنلزم الصمت، ونؤجل الأحاديث النسائية التي تسبب له الملل، ثم نحاول استرضاءه بأن نوصيه على كيلو جبن بلدي أو كيلوين لبن غنم أو غيرها من المنتجات التي يحملها من ضيعته للمتاجرة بها في أوساط الموظفين.

 نسيت أن أخبركم بأن إحدى مزاياه الفنية والتعبوية هي قدرته على قيادة الباص، وتشغيل تجارته في الوقت نفسه، إضافة الى مراقبتنا في المرآة لكي يتأكد أننا نجلس جميعاً في أماكننا المخصصة، ونلتزم بتعليماته الشفهية التي حفظناها من كثرة ما رددها على مسامعنا، متوعّداً من تجرؤ على المخالفة بأن يتركها في الشارع تنتظر إلى الأبد! وطبعاً نحن أيضاَ بسبب ذلك صارت (الآدمية) شعارنا وصرنا نمشي (مثل الألف) كما يقولون، لكن سوء الحظ أوقع بعضنا تحت عصا العقوبة، كالمسكينة التي وقعت عندما مشى الباص قبل أن تصل إلى مقعدها، فاعتبر أنها تستحق ذلك لكونها تهوى تغيير مكان جلوسها باستمرار! أو الأخرى التي يزعجه صعودها معه لأنها سمينة! أما حين وصل إليه أن البعض اشتكاه للإدارة، فقد تخلى عن آدميته التي طالما تغنى بها، وشن حملة عاتية ضد الجميع، موجهاً إلينا قذائفه العشوائية دون تمييز بين بريئة وجانية،كل ذلك وهو يقود الباص بطريقة معبرة عن حالته النفسية،و في ذروة الهجوم، لا أدري لم خطر لمسؤول الحاجز الأمني أن يوقفه على غير العادة، وراح ينظر إلينا باستغراب، أعتقد أن شحوب وجوهنا  وبكاء طفلة زميلتنا الخائفة جعلنا نبدو كأننا مختطفات، وفعلاً سألنا: هل لديكن مشكلة مع هذا الرجل؟ وأشار الى السائق، حينئذ أجبناه بصوت واحد: بالعكس، نحن من نسبب المشاكل لهذا الآدمي!!

العدد 1105 - 01/5/2024