جوزيف كونراد… والبحث عن الذات

ولد جوزيف كونراد عام 1857 في أوكرانيا البولندية، في المنطقة الواقعة تحت حكم روسيا، فهو بالولادة مواطن روسي، وكان والدا كونراد كلاهما منخرطين في مختلف الحركات الرامية إلى الاستقلال السياسي. كان أبولو كوجينوفسكي من طبقة ملاك الأراضي، شاعراً ووطنياً، ورجلاً صادق النية وفوق ذلك كان مثقفاً ترجم شكسبير وهوغو. وكانت والدة كونراد ذكية ولطيفة وتكاد تكون قديسة. وبعد أن صودرت معظم أراضيهم وضع خاله (تاديوس) إمكاناته المالية لخدمة جوزيف كونراد.

لدى ولادة كونراد، ألف (أبوه) قصيدة مزجت الاحتفال الشخصي بالشعور الوطني: (ليباركك الله يا ابني الصغير/ كن بولندياً! رغم أن الأعداء / قد يغرونك/ بشبكة من المتعة/ تبّرأ منها كلها/ أحبب فقرك/ نم يا طفلي).

وكانت جنازة أبولو مناسبة عظيمة، وتطورت لتتحول إلى احتفالية وطنية،

في 19 أيلول من عام 1881 وجد كونراد وظيفة على السفينة (فالانتاين)، ولم تكن السفينة ولا الربان من النوع الذي يوحي بالثقة، فكلاهما كانا عرضة للاهتراء والعطب.

وقد تبين أن هذه كانت تجربة كارثية حوّلها كونراد إلى تجربة جديدة في قصتها القصيرة (شباب)، وكان بعمله ذاك يشجع كتاب السيرة على تعقّب الأشخاص (الحقيقيين) خلف أنماط الشخصيات الروائية.

في قصة (شباب) يقدم كونراد سرداً واضحاً ودقيقاً دون شك لتلك الرحلة البحرية، دون الكثير من المبالغة بالمادة. ويبقى الكابتن بيرد العجوز المسكين في القصة هو الكابتن (بيرد) دون تغيير الاسم. ولكننا نرى النهاية وقد جرى تمجيدها حتى أن (الشرق) يشخصن في النهاية كامرأة مغوية معطرة. أما بقية القصة فتلتزم بالوقائع تماماً.

ورغم أن (قلب الظلام) رائعة كونراد التي استوحاها من رحلته تلك قد عُدّت ذات مرة أمراً مبالغاً فيه، إلا أنها ينظر إليها مؤخراً على أنها دقيقة إلى حد مدهش. كان الرجال يقيدون بالسلاسل معاً ويدفع للعمال أجرهم بقضبان النحاس، كما اعتبر أكل لحوم البشر أمراً شائعاً. كانت هذه ورغم أن (قلب الظلام)  رائعة كونراد التي استوحاها من رحلته قد عدت ذات مرة أمراً مبالغاً فيه، إلا أنها ينظر إلهيا مؤخراً على أنها دقيقة إلى حد مدهش. كان الرجال يقيدون بالسلاسل معاً ويدفع للعمال أجرهم بقضبان النحاس، كما اعتبر أكل لحوم البشر أمراً شائعاً. كانت هذه البيئة ستبدو له أشد ما تكون غرابة إلى حد عدم التصديق. رواية (قلب الظلام) لجوزيف كونراد تشبه رواية مغامرات، صبي صغير (مارلو) يحلم أن يستكشف أحد الفضاءات البيضاء لبطاقة، وبعد أن كبر مارلو قرر أن يستكشف قلب القارة السوداء الذي يبلغه نهر متعرج، وذلك بمهمة الالتحاق بكورتز، وهو أحد وكلاء الشركة الذي كرّس نفسه لجمع العاج. ويتم الحديث عن المخاطر.

فاالمخاطر التي تنبأ بها دكتور الشركة من النوع الداخلي: إنه يقيس جمجمة من يسافرون ويسألهم عن وجود الجنون أو غيابه في الأسرة.

والقبطان السويدي الذي أوصل مارلو إلى الدرجة الأولى متفائل بالمستقبل، والمغامرات تلعب في روح المستكشف، وليس في المواقف التي يجتازها.

الرواية غنية بالرموز إن صعود النهر هو إذاً صعود إلى الحقيقة، والفضاء يرمز إلى الزمن، والمغامرات تفيد في الفهم، وإن صعود النهر ثانية يعني (الرجوع إلى عصور العالم الأولى. (كنا نرحل في ليل العصور الخوالي). ونلحظ مسرود الحدث بانتشار مسرود معرفة. الفعل تافه لأن الجهود كلها انصبت على البحث عن الوجود وهناك تفاصيل كثيرة تؤكد هيمنة المعرفة على العمل. ولا تنفك الشخصيات تتأمل المعنى الخفي للكلام الذي تسمعه. وكورتز يعرف لغة السود، والكلمات تتطلب التأويل، ومن باب أولى الرموز غير الكلامية التي يتبادلها الناس. ولكن مارلو نفسه يصبح موضوعاً للتأويل بالنسبة إلى عامل القرميد.

وهناك عدة حوادث رمزية تبين أن هناك مسروداً يهيمن فيه تأويل الرموز في البداية عند باب الشركة، في مدينة أوربية يوجد امرأتان حارستا باب الظلام تنسجان الصوف الأسود. إحداهما تنظر بلا توقف في المجهول، والثانية ترقب الوجوه الفرحة. وفي نهاية القصة كانت خطيبة كورتز تحلم بما ستفعله لو أنها كانت بجانبه.

كورتز هو صناعة أوربية تم إعداده لاستكشاف قلب القارة السوداء ولنهب ثرواته يحمل المعرفة والعلم لينشره، لكننا نجده لا يشبع من جمع العاج والتدمير، ونلحظ في النص هذا الفيض الاستعماري للأسود والأبيض، والمضيء والمظلم، ونجد الظلمة تعادل الجهل، والنور يعادل المعرفة، والنص غني بالثنائيات والتضاد وعنوان القصة (قلب الظلام) يدل على داخل القارة المجهولة، التي يقصدها القارب وبالتزامن نجد أن الظلام يرمز إلى الخطر واليأس.

وفي الواقع إن منزلة الظلام ملتبسة، والنور بدوره يتماهى مع الحضور، بكل ما لهذا الحضور من إحباط كورتز. إنه يتماهى مع الظلام بحيث لو كان هناك نور إلى جانبه فإنه لا ينتبه إليه.

(أنا ممدد في السواد بانتظار الموت.. كان الضوء يشتعل على بعد أقل من قدم من وجهه، وعندما يشعل النور في الليل، لا يستطيع كورتز أن يكون فيه. فكورتز إلى الظلام، ولكن ما بعد ذلك سرعان ما لجأ مارلو إلى قمرته المضاءة ورفض أن يغادرها).

والأبيض يمكنه أن يمنع المعرفة، مثل هذا الضباب الأبيض (المعمي أكثر من الليل نفسه).

ويظهر الأبيض قاسياً وغبياً، وكورتز الملتبس تحت علاقة مضيء  مظلم هو كذلك بالنسبة إلى الأبيض والأسود. يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة، كان يؤيد سيطرة البيض على السود، ولكونه باحثاً لا يكل عن العاج، فقد غدا رأسه ككرة من العاج.

إن كورتز هو قطب الجذب في القصة بأكملها. وكورتز هو مركز المسرود، ومعرفته هي القوة المحركة للحبكة. وهناك مسرودات متتتالية ترسمه:/ مسرود المحاسب ومسرود المدير ومسرود عامل القرميد، هذه المسرودات تجعلنا جميعاً في معرفة كورتز. الحقيقي بيد أن الحواجز تتكاثر: الظلام، ثم هجمات السود، ثم الضباب الكثيف الذي يحجب الرؤية، الغابة بأشجارها الكثيفة.

أصبحت معرفة كورتز مستحيلة من خلال مسرود مارلو، لقد أصبح مألوفاً لدينا لكننا لا نعرفه، ونجهل سره، وقد عبر كونراد عن هذه الإحباط في النهاية: (لم يتمكن مارلو من ملاحقة شيء غير الظل (ظل السيد كورتز) لقد غاب كورتز قبل التمكن من معرفته.

لقد كتب كونراد يوضح مفهومه للأدب قائلاً: ليس هدف الأدب في المنطق الواضح لنتيجة مظفرة، وهو ليس في كشف أحد هذه الأسرار التي من غير قلب والتي نسميها قوانين الطبيعة.

إن قوة كونراد بوصفه روائياً تكمن في أنه لا يمكن وضعه ضمن التراث الأنغلو  الأمريكي. وكان الدفاع عن كونراد هو التاريخ اللاحق للقرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، وما تزال (قلب الظلام)، تلقي الضوء على أنظمة الرعب البربرية التي ابتليت بها آخر مئة سنة من عصرنا.

العدد 1105 - 01/5/2024