مفارقة موجعة

 لأول مرة منذ أكثر من 6 سنوات تصدر جريدة (النور)  من دون زاوية (مفارقات) التي حرص مشرف الصفحة على كتابتها مهما كانت الظروف التي يمر بها، ولم يوقفه عن ذلك إلا رحيله المرعب.

زاوية (مفارقات) تناولت هموم الناس وحملت شكواهم، منها انبعثت أنّات الموجعين، وخيبات الحالمين، وانكسارات المهزومين في معركة الحياة القاسية. كانت روح السخرية المرة والموجعة، الطابع الغالب على الزاوية التي عكست جزءاً من طبيعة أبي الشفيع، الجدّية الساخرة، المتألمة المتفائلة، فمن أراد أن يتعرف على الفقيد بعيداً عن رواياته وقصصه، فليقرأ (مفارقات)، ففيها يجد ما يبحث عنه من وصف ولغة شاعرية وسرد قصصي وخاطرة وجدانية.

( مفارقات) خلطة أجناسية لن ينجح في تقديمها إلا قلم باسم عبدو، متعدد المهارات. في برنامج إذاعي عن الفقيد الراحل على الهواء مباشرة، سئلت: في عنوان كلمتك في تأبين أبي شفيع قلت: بعيداً في الغمام.. عميقاً في التراب، فماذا تقصد بذلك؟

حقاً، قبل أن أستعير هذا العنوان، لم أفكر به ولا بماذا يعني، وما هي دلالاته. وفجأة وجدتني أجيب: الغمام يحمل المطر، والمطر يجلب الخصب، وهو مقدمة الربيع، فصل التجدد والعطاء والشباب والجمال، ألم يكن أبو شفيع كذلك؟

أما (عميقاً في التراب)، فبعيداً عن اللاهوت والتصاقاً بالواقع، ألسنا من التراب وإليه نعود؟ ألم يكن أبو شفيع شديد الصلة بالواقع، ملتحماً به، متفهّماً لحركته، مدركاً لتناقضاته، قابضاً على نبضه، منحازاً للقوى الطليعية فيه؟

ألم يعشق أبو الشفيع تراب هذا الوطن، ويسخّر قلمه في خدمته والدفاع عنه موحَّداً، حراً، سيداً، سعيداً..؟

وها هو اليوم يندفع عميقاً إلى جذوره، فكما كان في حياته مغموساً بتربته، هو اليوم يتحلل، ليذوب فيها من جديد.

أيها القراء الأعزاء، ويا أصدقاء الفقيد، لن تجدوا بعد اليوم (مفارقات) أبو شفيع، الذي آثر أن يوقّع مفارقته الأخيرة بغيابه المفاجئ..  أليست هذه مفارقته الكبرى…إنها سخرية الحياة المشبعة بالكآبة والمرارة.

العدد 1107 - 22/5/2024