يوم الأرض .. تجسيد الإرادة الوطنية الفلسطينية

رداً على مخطط العدو الصهيوني والخريطة الهيكلية التي أعدتها دائرة تنظيم اللواء الشمالي تمهيداً للمصادرات، فقد شهدت المناطق العربية تحركاً جماهيرياً واسعاً تحت شعار (الدفاع عن الأرض)، جاءت قمة الرد الفلسطيني في(المؤتمر الشعبي للدفاع عن الأرض) الذي انعقد في مدينة الناصرة بتاريخ 18/10/،1975 وأصدر عدة قرارات من بينها التمسك بالوطن والأرض، ورفض السياسة الرسمية المتبعة، والتنديد بسياسة العدوان إزاء المناطق المحتلة 1967.

لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل أبدت الجماهير الفلسطينية استعدادها لتحدي المستوطنين بالقوة.. ففي 26 تشرين الأول 1975 عقد سكان كسري الفلسطينية من الطائفة الدرزية اجتماعاً قرروا فيه اعتبار أي مساس بأية قطعة أرض في القرية عدواناً على كل البلد يتوجب التصدي له ومنعه بالقوى مهما كلف الأمر، مع التهديد لكل من يتخلف عن ذلك بحيث يحرم التعامل معه ومع أولاده وأحفاده، ويعتبر كل ما في بيته حراماً، وكل من يقتل أثناء الدفاع عن الأرض يعتبر شهيداً ويدفن فيها..بعد ذلك بيومين خرج سكان القرين مسلحين بالعصي والقضبان للتصدي لجرافات المستوطنين وأرغموها على الانسحاب.

وفي 17 شباط 1976 عقد مؤتمر شعبي فلسطيني في سخنين حضره أكثر من خمسة آلاف شخص، واتخذ عدداً من القرارات التي تعتبر المصادرة وإغلاق المناطق بحجة الأمن خطوة لتجريد الفلاحين العرب من المنطقة رقم 9 التي تبلغ مساحتها مئة ألف دونم، وتشمل قرى سخنين، عرابا، دير حنا، نحف، دير الأسد، وفي اليوم الثاني نشر بيان من رؤساء اللجان المحلية لقرى المشهد الرينة، عين ماهل، كفركنا ضد المصادرة جاء فيه:

(إننا آلينا على أنفسنا الوقوف في طليعة النضال ولن نتردد، هذا النضال هو نضال مقدس يمس أرضنا ومستقبلنا ومصيرنا).

التحرك الأكثر جماهيرية كان المؤتمر الذي عقد في 6/3/1976 بمدينة الناصرة ومثلت فيه الجماهير الفلسطينية من كل القطاعات، وتألفت بينهم اللجنة الوطنية للدفاع عن الأرض، وقرر المؤتمر بالإجماع التصدي لإجراءات المصادرة ورفض التعويضات، ودعا المؤتمر إلى إضراب شامل وحدد له تاريخ الثلاثين من آذار.

المناضل الفلسطيني توفيق زياد قال أمام المؤتمر: (إن الحكومة تريد خنقنا ولابد أن نعد أنفسنا لنضال عنيف.. يريدون طردنا من أراضينا ولكننا سنبقى فيها وعليهم هم الرحيل).

بعد هذا الاجتماع أصدر العدو قرار المصادرة وتم إبلاغ اثني عشر من رؤساء المجالس المحلية المعرضة أرضهم للمصادرة، ورافق ذلك حملة من الترهيب والتهديد للجماهير الفلسطينية وقيادتها الوطنية والنقابية، لدفعها لإلغاء الإضراب في 25/2/،1976 إلا أن خطة السلطات فشلت بفعل إصرار وتمسك الجماهير الفلسطينية ومنظماتها الشعبية والطلابية، وهكذا أفشلت كل وسائل السلطة وانطلقت طاقة الشعب الجبارة.

انطلقت تلك القوى ترفض الاحتلال وتهتف لفلسطين الأرض والهوية، متحدية عدوها الغاصب، مضحية بالدماء عربوناً لحياة الشعب الفلسطيني ونهوضه الوطني، فامتدت تلك الوقفة النضالية لتشمل كل مدن وقرى فلسطين في الجليل والنقب والناصرة وكفر قاسم وشفا عمرو وسخنين والطيرة والطيبة وباقة الغربية ومجد الكروم والمغار ونحف ودالية الكرمل وحيفا وعكا والرامة وأم الفحم وكفر قرع وفي كل مكان يوجد فيه الشعب الفلسطيني.

لقد أضرب أكثر من مئة ألف عامل وأضربت المدارس والتجار، وإلى جانب هذا التحرك وقف أبناء شعب فلسطين في كل مدن فلسطين المحتلة وقراها ومخيماتها ،1967 وخلفهم تضامنت جماهير الشعب في الشتات، فكان يوماً للوطن ولشعبه الموحد التقت فيه كل القطاعات الفلسطينية المناضلة، مؤكدة وجودها وهويتها الوطنية، مخترقة الحدود والجغرافيا والعسكرية، رافضة التقسيمات الطائفية والدينية التي بذلت السلطات جهوداً كبيرة لخلقها بغية تفتيت الإرادة الموحدة للشعب.

لقد نزلت الجماهير إلى الشارع وأعلنت التحدي للاحتلال، وكانت دماء الشهداء الستة: خير ياسين من عرابة البطوف، وخديجة شواهنة ورجا أبو ريا وخضر خلايلة من سخنين، ومحسن طه من كفركنا، ورأفت زهيري من مخيم عين شمس طولكرم.

كانت دماؤهم التي جبلت تراب الوطن ومعها دماء مئات الجرحى وتضحيات آلاف المعتقلين والمناضلين من أبناء فلسطين عطاء الشعب من أجل الأرض والحرية، وكانت برهاناً على أن الشعب الفلسطيني شعب لا يمكن استئصاله أو استيعاب شخصيته الوطنية وتطلعاته نحو التحرير، أو تدميرها ، وأن التشبث بالأرض لم يتزعزع رغم كل سياسات القهر والنضال من أجل الأرض لا ينفصل عن النضال من أجل الحقوق الوطنية السياسية.

وكان لهذه الانتفاضة خبرتها الكفاحية إذ أكدت:

– الأهمية العالية للانسجام والتفاعل ما بين الحالة الجماهيرية المتقدمة والإصرار على الدفاع عن الحقوق الوطنية والاجتماعية، وتوفر قيادة طلائعية قادرة على اتخاذ القرار النضالي الحازم والمناسب الذي يرتفع بمستوى نضالية وتضحية وصلابة الجماهير، وقد تمكنت لجان قيادية جماهيرية من دفع الحركة خطوات عديدة للأمام.

– أن الأسس والأمكانات الكفاحية عند الشعب الفلسطيني في المنطقة المحتلة 1948 متوفرة، وأنه استطاع إلى حد بعيد بالعقل المنظم والشامل تجاوز مرحلة الضعف والتفكك، وغدا أكثر إدراكاً لأهمية توحيد النضالات والتعبير عن الاستعداد للبذل والتضحية من أجل الحفاظ على الأرض والوجود، وأن ما يحتاجه هو القيادة الموحدة وطنياً والمنسجمة والمتماسكة إلى الحد المطلوب في القرار وفي التنفيذ، كما أبرزت دور المؤسسات الوطنية والجماهيرية وأداته النضالية المحلية.

– إن الرصاص الذي أطلق على الفلسطينيين في الجليل ذلك اليوم من آذار 1976 قد فضح نهائياً سياسة إرهابية عنصرية تمارَس تحت شعار زائف سمي تعايشاً بين العرب والسلطة الصهيونية، وكان لطمة لمقولة أن العرب مواطنون مخلصون طيعون في الكيان الصهيوني وغير ذلك من الأقوال المضللة.

في كلمات قليلة اختصر المناضل الفلسطيني توفيق زياد أهمية يوم الأرض عندما قال في الذكرى السنوية الأولى: ( للمناسبة بين الثلاثين من آذار الماضي والثلاثين من آذار اليوم 1977 كبر شعبنا كثيراً ربما أكثر مما كبر خلال 28 عاماً الماضية، صوتنا الآن يخترق كل زاوية في البلاد، وخارجها في الشرق والغرب، اليوم يعترف الجميع العدو قبل الصديق أننا لم نعد أقلية الخمسينيات والستينيات المستضعفة، بل أصبحنا اليوم شعب ما بعد الثلاثين من آذار.

العدد 1105 - 01/5/2024