الرأي والرأي الآخر

 ليس من قبيل المبالغة القول إن النقد الجدلي هو جوهر الفكر الماركسي، وأهم أدواته في التحليل والتفسير، وقد سلّط آباء الماركسية نقداً لا يرحم على تجربتهم ذاتها، قبل تجارب الآخرين، ووصف إنجلز بعض ما جاء في البيان الشيوعي بالقدم والشيخوخة، بعد مرور سنوات قليلة على كتابته، وكان هؤلاء لا يتسترون على عيوب التجربة، ويحاولون تحريرها من كل زيف.

لقد رفض ماركس، وإنجلز، وبعدهما لينين، مدحهم، والتعظيم من شأنهم، أو من شأن نظريتهم، وقد خرج لينين في أحد المهرجانات التي بدأت بكيل المديح له ولم يعد، إلا بعد أن قال لهم: أوقفوا هذه المهزلة! فأوقفوها.غير أن هذا الحال لم يستمر طويلاً في تجربة الأحزاب الشيوعية كلها، ولم يحذر الأخلاف مما نبّه إليه الأسلاف من تحويل الماركسية إلى طوطم، وتقديس زعمائها، فتحولت والحق يقال على أيديهم إلى طوطم، وعرفت الحركة الشيوعية عبادة الفرد ومآسيها، والأخطر من ذلك أنه جرى خنق صوت النقد وملاحقة رواده، تخوينهم والتنكيل بهم، وتصفيتهم في كثير من الأحيان. وقلما نجد حزباً من الأحزاب الماركسية، سواء أكان في الحكم أم في المعارضة، إلا وارتكب هذه الحماقة، واتبع هذا الأسلوب المدمر، وراح يقتصّ من خيرة مفكريه، وأصحاب الأقلام الجريئة في نقد عيوب الممارسة، ومحاربة الأخطاء التي تقوم القيادات الحزبية العتيدة والتاريخية بإخفائها، شأنهم في ذلك شأن من يحاول أن يحجب نور الشمس بغربال.

ولا نكشف سراً حين نؤكد أن النقد الجدلي الماركسي قد غاب لسنوات، وعقود، عن تجربة حزبنا الشيوعي السوري، ولم يتح للشيوعيين أن تسود في منظماتهم الديمقراطية الحزبية، وكانت الانقسامات المتتالية هي الثمرة المرة لهذا النهج.

غير أن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى المؤتمر السادس للحزب، الذي لمع كأحد الشهب في سماء حياتنا الحزبية المعتمة، وذلك في كانون الثاني عام ،1987 ففي ذاك المؤتمر استعاد الشيوعيون المنهج النقدي الجدلي في قراءة تجربتهم الحزبية ولو إلى حين، وعمدوا إلى تصحيح ما اقتُراف من أخطاء، وأهمها أن المؤتمر سحب الوثيقة المهينة المعروفة باسم (رسالة سالم)، والتي فُرض على الرفيق فرج الله الحلو كتابتها، يتهم فيها نفسه بانحراف عن الخط الشيوعي دون أن ينحرف، ونُسب إليه فيها ما لم يقم به، وبما يتنافى مع تاريخ نضاله المضيء، والمشرّف، الذي ختمه بالتضحية بحياته، ولم ينل جلّاده من صلابته.

كما أدان المؤتمر التنكيل بمفكري الحزب الذين تحلوا بالجرأة، وألغى قرارات فصل جائرة، طالت أولئك الذين كان على الحزب أن يحافظ على وجودهم بين صفوفه، لا أن يضحي بهم، وبين هؤلاء الرفيق رشاد عيسى الذي خاطب أعضاء المؤتمر قائلاً: إنني في السابعة والسبعين من عمري، ويبدو أنني محظوظ لأنني بقيت حياً، إلى أن جاء اليوم الذي عدت فيه إلى صفوف الحزب. ومن هؤلاء الرفيق والمفكر المجتهد بدر الطويل الذي سلط الضوء على مساوئ عبادة الفرد قائلاً: لو لم تكن ظاهرة عبادة الفرد في حزبنا، لكان الحزب أدى مهمات أكثر إبداعاً وإشراقاً، ينبغي تعرية عبادة الفرد نظرياُ وعملياً وليس إدانتها فقط، وأشار إلى خطر الانقسامات بالقول: مهما بلغت الانتصارات التي يحققها هذا الطرف أو ذاك في ظل الانقسام، فإنها لا بد أن تذهب سدى. وانتهى إلى القول: لقد اختلفنا، وطُردنا، وأعيد اعتبارنا، وقد قاسينا في هذه السنوات نحن وعائلاتنا.

اعتُبر المؤتمر السادس مؤتمر الدفاع المخلص والجريء، عن مبدأ وحدة الحزب، مؤكداً أن مسلسل الانقسامات قد توقف، مع أول خطوة توحيدية جرت في ذاك المؤتمر، الذي سُمي مؤتمر السير قدماً على طريق إشاعة الديمقراطية الحزبية المسؤولة، مؤتمر التطلب الشيوعي والتجديد في الحزب.

واليوم، بعد ثلاثين عاماً على انعقاد المؤتمر السادس، أين نقف؟ وماذا أنجزنا من أهداف ذاك المؤتمر؟

على الرغم من الدعوة إلى وحدة الشيوعيين، ظلت الحركة الشيوعية السورية ممزقة ومقسمة، ومتراجعة، واستمرت عبادة الفرد شائعة بصورة مؤذية ومنفّرة في بعض فصائلها، وطوى النسيان شعار التطلب والتجديد، ولم تُفلح الأنظمة الداخلية التي نصت على تجديد القيادات الحزبية بعد دورتين انتخابيتين في تحقيق ذلك. ولم يحتضن الحزب الباحثين والعاملين في ميدان الفكر الذي يمنح خط الحزب قوة الإقناع، إذ لا تقوم سياسة ناهضة إلا على فكر ناهض. فاتسم خطاب الشيوعيين، في مختلف فصائلهم، بالخطابية، واللغة المباشرة، والمسطّحة، وغياب الإبداع، وتكرار الشعارات المحفوظة، التي تفتقر إلى التحليل الفكري الجدلي العميق.

ويمكن القول في النهاية إن التحول النوعي، الذي تطلع إليه المؤتمر السادس، ما كان له أن يستمر، لعوامل وأسباب موضوعية وذاتية، أهمها قوة العادة والتقليد، والخضوع لأساليب العمل القديمة، وعدم النجاح في إشاعة المنهج النقدي الماركسي في العمل الحزبي، وافتقار الخطاب السياسي إلى التميز، والاستقلالية، والنّدية، وقوة الجذب واستقطاب الناس، ومن هذه العوامل طبيعة البنية الحزبية التي لا تستند إلى الطبقة العاملة والطبقات الشعبية بصورة عامة، بل تشكل البرجوازية الصغيرة القوة التي تمخر في محيطه. ومن هذه العوامل الهامة أيضاً، الهجوم المستمر الذي تقوم به القوى الطبقية المعادية للفكر الماركسي داخل البلاد وخارجها، وتراجع الحركة الشيوعية العالمية، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وأفول نجمها.

ولعل ذلك كله ظهر جلياً، في غياب الدور المنشود، والمطلوب من الشيوعيين السوريين في هذه الحرب العاتية، والمجرمة، التي حولت سورية إلى أنقاض فوق رؤوس ساكنيها.

والخلاصة: ليس أمام الشيوعيين السوريين من خيار إلا أن يولدوا من جديد، وهذه الولادة تتطلب البدء من درجة صفر الوجود، بهدف التأثير، والفعل، وبتأسيس فكر نقدي، يعيد النظر في كل شيء بدءاً من كل شيء، ويصل بنا إلى خطاب سياسي جذّاب، يشيع فضاء ديمقراطياً رحباً، وخلاقاً، قوامه الرأي والرأي الآخر، يودّع فيه الشيوعيون الرتابة، والبيروقراطية، والجمود، ويهجرون الرضا عن الذات، والتوهم باحتكار الحقيقة، ويستعيدون زمام المبادرة، ويتمكنون من تشخيص الواقع، وصياغة الأهداف القريبة والبعيدة، في ضوء المادية التاريخية منهجاً للبحث، ويحرصون من خلال ذلك كله على فن مخاطبة الأجيال الشابة، وضم الكادحين، وأبناء الفئات الشعبية، إلى صفوفهم.

وبكلمة، لم يعد الصمت على هذا التردي ممكناً، ولا بد من التوقف عن الاستمرار بهذا التراجع الدائم والموت البطيء.

إن قطار الحياة السياسية لا يمتلك المحطات، ولا يعرف التوقف، وعندما تفتقد الأحزاب خاصة السير الجريء على طريق التطور، والتقدم، والتجديد، لا تعود أهلاً للحياة وتصبح خارج الحاضر، وفي ذمة التاريخ

العدد 1104 - 24/4/2024