استطلاعات الرأي العام وغيابها في البلدان العربية

 إن علم استطلاع الرأي العام واحد من إبداعات تكنولوجيا الربع الأخير من القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، وإذا كانت بدايات هذا الفرع تعود إلى ما قبل ذلك، فإنها كانت مرحلة تعتمد على القدرة البشرية، وتستغرق وقتاً طويلاً، والثورة الحقيقية في هذا المجال لم تحدث إلا من خلال استخدام الحاسوب، فما موقع هذا العلم في حياة سورية والمجتمعات العربية؟

بداية لابد من نقطة توضيح حول غياب ذلك العلم، وليس القصد من غيابه عدم وجود متخصصين أو خبراء فيه لدينا، فالحقيقة يوجد هناك عدد كبير نسبياً منهم، كما أنه ليس المقصود أنه لا يدرس في معاهدنا وجامعاتنا، فهو أيضاً تجري دراسته وتعليمه، ولكن المقصود هو الغياب عن الاستخدام في حياتنا العامة.

وقد يتصور البعض خطأ أن الاستخدام لهذا العلم محصور في الدول الغربية الليبرالية، إلا أن ذلك غير صحيح، لأن هناك فارقاً بين استخدام هذا الأسلوب وبين علانيته في أجهزة الإعلام.

وإذا كانت حكومات دول العالم في حاجة ماسة إلى هذا العلم، فإن سورية والمجتمعات العربية هي أكثرها احتياجاً له، فالاستقرار السياسي والاجتماعي هو هدف كل نظام كما يفترض، إلا أن المهم أن يكون استقراراً حقيقياً وليس مجرد هدوء أو سكون يقال عنه في الأمثال العربية السكوت الذي يسبق العاصفة، والعاصفة عادة عندما تكون مفاجأة غير منتظرة ولا محسوبة، سواء في مصدرها أو مكانها، لا شك أن المصلحة العامة تكمن في الاستقرار الحقيقي، وإلا ستكون هناك أخطار العواصف المفاجأة.

إن استخدام علم استطلاعات الرأي العام هو أحد أدوات تحقيق ذلك الاستقرار مهما اختلفت طبيعة الأنظمة أو المجتمعات.

إن تحقيق المجتمع الديمقراطي والمتعدد هو أمر أصبح يعترف به الجميع، ولكن يبقى الخلاف حول الأسلوب، وبعيداً عن ذلك الحوار، فإن استطلاعات الرأي تصبح ضرورة، فهي تدريب حقيقي للجماهير على إبداء الرأي دون خوف من عقاب، وخصوصاً أن أحد أمراض المجتمعات العربية هو أن السنوات الطويلة من القهر قد علمت الجماهير أن تقول ما يريد المتحدث أن يسمعه، وليس ما يجب أن يسمعه، وذلك طلباً للأمان، وهي لن تستطيع التخلص من حذرها إلا من خلال الممارسة بشرط الاستمرار مع الوقت الكافي للتجربة والاطمئنان.

وإذا كان البعض يرى في هذا الأسلوب كثيراً من المحاذير، فإن التقدم التكنولوجي مع عدد آخر من الضوابط، يمكن أن يقضي على كثير من المحاذير أو العيوب، وأبرز هذه المحاذير التي يمكن أن تكون من واقع العالم العربي أكثر من غيره، وفي مقدمتها بل أبرز هذه المحاذير هو الاستخدام الخاطئ لهذا العلم، وذلك بتحويل استطلاعات الرأي من معرفة موقف الجماهير إلى تحريف له، وبدلاً من أن تصبح أداة لمعرفة موقف الرأي العام تتحول إلى أداة خداع وتضليل له.

وكلمة صدق في أن أحد أوجه الأزمة في المجتمعات الغربية هو في نوعية من المثقفين تبدو في ظاهر أسلوبها وسلوكها وكأنها تريد خدمة الحاكم، أي حاكم، وهي في الواقع لا تخدم إلا نفسها، إنها تجيد الحديث عن نفسها، كما تجيد نقل الشعارات والكلمات من المجتمعات الأخرى، دون مراعاة لإمكان تطبيق المطروح، وهي دائماً الأسرع في تفسير قرارات الحاكم وتبرير سلوكه، وفي الوقت نفسه هي الأسرع في تجريمه ونقده إن تغير بأي طريقة من طرق التغيير الطبيعي أو الإلهي. وتأتي المشكلة الثانية من حداثة هذا العلم لاستطلاع الرأي العام، وبالتالي احتمالات الخطأ في النتائج، وهو ما حدث ويحدث دائماً، لكن التقدم العلمي والتكنولوجي يمكن أن يعالج ذلك الخطأ من خلال ضوابط ومعايير اختيار العينة التي يتم استطلاع موقفها.

 إن مراجعة قواعد اختيار العينة والضوابط في صناعة السؤال يمكن أن تعالج نسبة كبيرة من الخطأ المحتمل في هذه الحالات. وننتقل إلى مشكلة ثالثة وهي تتعلق بلغة الأرقام والعقل العربي، فنجد أن هناك نوعاً غير مفهوم من العداء مع الأرقام، حتى أننا نجد أبسط المعلومات وأكثرها حيوية ليست لها إحصاءات، فكل شيء في البلدان العربية تقديري باستثناء الثروات.. والغريب أن رسم السياسات لا يمكن أن يتحقق له النجاح، إلا إذا قام على حصر إحصائي دقيق للقضية، إلا أن أحداً لا يتحرك حتى يمكن توفير مثل هذه الأرقام.

بل أحياناً ما يكون الوصول إلى وضع الرقم أمراً مرفوضاً من كل الأطراف حتى يستطيع كل طرف أن يستخدم الرقم التقديري وفق مصالحه وهواه، مع أن الأمر يمكن أن يفصل فيه لو جرت عملية توفير الرقم المطلوب، وبذلك يمكن أن توضع الحلول على أساس حقيقي وواقعي، ويمكن إيراد أمثلة متعددة يمكن أن تغطي صفحات كثيرة كلها تعبر عن غياب الأرقام في مسائل بالغة الحيوية، وهو أمر لا يقتصر على دولة عربية واحدة دون أخرى، بل هو مرض منتشر على رقعة البلدان العربية بأسرها.

لقد حان الوقت لأن يكون للرقم في حياتنا الاحترام اللازم، وأن تقوم الأجهزة المعنية وهي موجودة على الوصول إلى هذه الأرقام.

إن غياب الرقم من حياتنا هو أحد ظواهر التخلف، ولا يمكن القضاء عليه من دون برامج وسياسات، وهي لا يمكن أن تكون جادة من دون أرقام.

وإن وجد الاقتناع باحترام الأرقام في حياتنا، أمكن الاقتناع باستخدام علم استطلاع الرأي العام قبل رسم السياسات، والادعاء صدقاً أو بالخطأ بالتعبير عن نبض الشارع، مع أن ذلك لا يمكن أن يتحقق من دون معرفة اتجاهاته ومواقفه من خلال أرقام.

وحتى إذا توافر الرقم، فإن هناك مشكلة أخرى تتعلق بالتعامل مع هذا الرقم، إن لدينا مرضَ فَرْضِ السرية على كل الأرقام، مع أن العالم لم يعد يعرف أو يعترف بسرية أي رقم.

وربما يتعرض البعض في البلدان العربية للحساب بل والعقاب إذا ما وجد شجاعة الحديث بالأرقام عن بعض القضايا، باعتبارها من الأسرار، وإفشاء تلك الأسرار جريمة مع أن الأرقام نفسها تكون موجودة غالباً في المجلات الأجنبية ولدى كثير من المصادر العالمية.

العدد 1107 - 22/5/2024