الفرد وقيم الديمقراطية في النظرية الماركسية

يعرف زوراً، اليوم، بالرجعي والاستبدادي والشمولي والخشبي …الخ، كلُّ من يعادي ويتبنى فكراً مغايراً للمنظومة القيمية للإيديولوجية اللبرالية الجديدة، التي رسخت في أذهان شرائح واسعة من الناس فكرة مقلوبة تدعي أن حقوق الأفراد ومبدأ الديمقراطية تتنافى مع جوهر الاشتراكية وأنها من نتاجها هي وحكر عليها.

الفكرة لا أساس لها من الصحة على الإطلاق، فحقوق الفرد وحريته والقيم الديمقراطية الشعبية الحقيقية هي مكونات في صلب النظرية الماركسية، التي تعرضت لأبشع هجوم نفسي فكري دعائي شهدته النظريات الفلسفية في تاريخها، لتشويهها وتقويض نتائجها والشعبية التي اكتسبتها. ويتعارض الفكر المادي الجدلي كذلك مع النظرة الأحادية المنتشرة بأن التجربة الاشتراكية السابقة هي محض فشل أو محض نجاح، أو أن انهيارها هو انهيار النظرية الماركسية برمتها وفوات أوانها وعدم إمكانية تطبيقها، وكل هذا الدجل الفارغ  يتهاوى سريعاً أمام الطبيعة النقدية العلمية لهذه النظرية التي تتقدم مع تقدم العلوم. تسقط سلبياتها وتعزز إيجابياتها وتفتح آفاقاً جديدة للبشرية تتجاوز جدلياً الرأسمالية على الدوام.  فالنظرية الماركسية تتطور ضمن منهجها المادي الجدلي والتاريخي وبعيداً كل البعد عن كل أشكال التلاعب التي تخفت بحجة تطويرها للقضاء عليها، ووقفت وراءها تروستات رأس المال والأجهزة الأمنية الغربية والنخب المأجورة والتيارات التابعة لها، وبعيداً عن الضجيج اليساري الانفعالي وجمله الثورية ورموزه المهزومة على حلبة (نهاية التاريخ).

تجد مقولة  ماركس حول ظروف معيشة الإنسان التي تحدد وعيه  وفكره، تجسيدها في  طغيان تلك الفكرة وشيوعها كفكرة مرهونة بوقائع عصرنا، ومحددة بالشكل الذي تلقنه للناس إمبراطوريات الإعلام ووسائل الدعاية المملوكة لأشد المعادين للماركسية من أثرى أثرياء العالم،  وفي كون 73 سنة من عمر تجربة اشتراكية كانت الأعظم في التاريخ، لكنها أخفقت في الوصول إلى صورة الفرد الحر والقيم الديمقراطية من المرحلة الأولى المقطوعة من مراحل الانتقال السياسي إلى المجتمع الشيوعي، لكن الصورة الأكثر تشويهاً للمفهومين اتضحت بفظاظة عقب انهيار تلك  التجربة حين أخليت ساحات العالم لعربدة العولمة الأمريكية في أجواء احتفالية ارتفعت فيها شعارات حرية الفرد والديمقراطية بصفتها قيماً ليبرالية أزلية، منتصرة ومن الواجب تعميمها على العالم، العالم نفسه  الذي يركع اليوم تحت ثقل التوسع الاستعماري الدموي اللاأخلاقي لهذه العولمة التي جعلت من تلك الشعارات عنواناً للعنف والنهب والعدوان والمجازر وتدمير الدول . 

الفرد الحر والقيم الديمقراطية في النظرية الماركسية

مضى على وفاة كارل ماركس الذي اعتبر (الإنسان الحر لم يولد بعد) 135 عاماً، ولم يتحقق مجتمع الحرية الإنسانية القصوى والعدالة الاجتماعية الناضج، اللاطبقي الذي لا يحتاج فيه الناس إلى أية سلطة تقرر ما عليهم فعله، وهو الشرط التاريخي لولادة الإنسان الحر الذي هو  في منظور ماركس: الإنسان، الفعّال المنتج الخلّا،ق والصانع المبدع لتاريخه، والذي يغير بعمله وجه الحياة، المتحرر من الاستغلال، لا ينتقص من حريته كونه جزءاً من الكل الاجتماعي، فهو قيمة عليا عضوية في قيمة عليا هي حياته الاجتماعية، ولا يعني ذلك  إلغاء دوره  لصالح المجتمع  كما يزعم  معارضو ماركس، لأن الفرد والمجتمع عنده هما في علاقة جدلية متبادلة، والناس من وجهة نظره يتعاونون لإنتاج وسائل إشباع حاجاتهم الأساسية، فيدخلون في علاقات تحتمهــــا الضــــرورة، مستقلة عن الإرادة والوعي.

إن الحرية الاقتصادية هي الشرط الضروري لكفالة الحريات الأخرى، فالرابط بين الفرد الحر والقيم الديمقراطية عند ماركس لا يتحقق دون القضاء على الدولة الطبقية وقيام مجتمع اشتراكي يتعاون فيه الجميع من أجل الجميع، إذ لا يمكن أن ينعم الأفراد بالحقوق والحريات في ظل أوضاع مادية ومعنوية غير عادلة، لا تناسب إنسانيتهم، وحسب إنجلس الذي اعتبر الشيوعية علم تحرير الطبقة الكادحة فإن الديمقراطية لا جدوى منها بوجود الملكية الخاصة.

في نواة النظرية الماركسية تقوم العلاقة بين الديمقراطية والأسس المادية للمجتمعات، وتصبح القيم الديمقراطية لأول مرة في التاريخ قيماً شعبية يتساوى فيها كل أفراد المجتمع، وهو ما يجعلنا نتمسك بهذه الرؤية.

المفهوم الوهمي الشائع لحرية الفرد والقيم الديمقراطية في عصرنا

مفهوم الفرد الحر وقيم الديمقراطية اللبرالية المنتشر بالقوة والتضليل في زمننا الحالي ليس بديلاً للنظرة الماركسية السابقة، ولا يمكن أن يكون، فهو مجرد وهم في ظل التفاوت الطبقي القائم وغياب التوزيع العادل للثروة. وكان ماركس قد كشف زيف هذا المفهوم منذ نشأته بصفته تعبيراً عن مصالح الطغمة المالية، فقد وصف حقوق الإنسان والمواطن التي جاءت في إعلان الثورة الفرنسية 1789 بالحقوق الشكلية ما دام الأفراد لا يتمتعون بالوضعية الاجتماعية والاقتصادية نفسها، إذ لا قيمة ولا معنى للحرية السياسية الممنوحة لفرد محروم من حريته الاقتصادية والاجتماعية.

كما عبّر ماركس عن استحالة قيام ديمقراطية في مجتمع رأسمالي لا مهرب فيه من الانحياز لامتيازات مالكي وسائل الإنتاج، ففي الغرب حيث صمدت الرأسمالية حتى يومنا هذا بفضل بعض ما حققته لشعوبها من مصالح وحقوق متقدمة مسروقة أصلاً من الماركسية، بهدف تحقيق أمنه الداخلي واستقراره الاجتماعي وتقويض إمكانيات الثورة  بكل الطرق المباشرة وغير المباشرة،  لا يمنح صك براءة ولا حق ملكية القيم الديمقراطية للّيبراليين الجدد المدافعين عن مصالحهم الأنانية باسم مصالح عامة الشعب، من جهة، ولا يمنحهم من جهة ثانية حق العدوان على دول العالم وشعوبه تحت عنوان نشر الديمقراطية. فالمبدأ الذي يقوم عليه هذا الخرق للقانون الدولي وحقوق الدول مغشوش من أساسه، لأن الديمقراطية حسب شروطها الأولية المعترف بها عالمياً لا تنطبق على المستعمرات، فهي تشترط وجود أرض وشعب يعيش عليها كوطن له، لتكون هناك دولة للشعب، فكيف يمكن أن تقوم دولة للشعب تحت الاحتلال سواء كان عسكرياً أو اقتصادياً أو دولة تابعة بأي شكل من أشكال التبعية؟

بين الإنسان الحر الذي لم يولد بعد والإنسان الموهوم بالحرية ما العمل؟

إن نظرة نقدية إلى المرحلة التاريخية التي نمر بها على أنقاض مفهوم دكتاتورية البروليتاريا من جانب، والنتائج المدمرة لنشر قيم الديمقراطية الشكلية  من جانب آخر، قد يشعر البعض بالعجز أمام انسداد الأفق، لكن إخفاق 73 سنة هو إخفاق تجربة وليس نظرية تحمل للعالم كل الإمكانيات الواقعية لمجتمع العدالة والأمن والسلام وتحقق حلم الحرية بأرقى أشكاله، فقد يسود العجز فترات تاريخية معينة، لكن الصراع من أجل الحياة الأفضل يستمر، فمثلاً في جواب إنجلز عن سؤال: هل يمكن إزالة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج بالطرق السلمية؟ قال: (حبذا لو كان ذلك ممكناً، ويكون الشيوعيون آخر من يشتكي من ذلك، فهم يدركون أن التآمر عديم الجدوى بل ضارّ أيضاً،  كما يدركون أن الثورات لا تقوم اعتباطاً).

 ثمة من سيطرح السؤال حول الإمكانية المتاحة في ظل عجز النضال السلمي والثورة معاً؟ لكن في المقابل هناك غمامة قاتمة من الوهم المطبق على عالمنا الذي نشهد تفاقم تناقضاته الكامنة، ونشهد تزايد الملايين من ضحايا الديمقراطية الليبرالية الدموية الوحشية وتلاطم أمواج الدعاية السياسية وما أنتجته من أفراد مغتربين، مسلوخين عن إنسانيتهم، يقودهم فرط الأنانية، متناقضين، أحرار شكلاً ومقيّدين مضموناً بانتماءات تحرّكها روح القطيع، ملقنين ساذجين وخاضعين لقوى المال الجبارة التي صنعت منهم مسوخاً  كالتي يصورها لاشعور فناني عصرنا التشكيليين، وتتعاظم مع ما نشاهده  المسؤولية الأخلاقية التي لا مهرب للفكر من تحمّلها، فهؤلاء الملايين من الضحايا أمانة في أعناق الفكر الإنساني الحر، هم رأسمال النظرية الماركسية التي غايتها الإنسان – لا الربح ولا النفوذ – وعلينا إيجاد المخارج مهما كانت ضيقة لتحرير الوعي الاجتماعي وتطوير شروط واقعنا وإشباع حاجات الناس في مشروع تنموي يعيد تموضع الكادحين وكل الفئات المتضررة من السياسات اللبرالية في خندق النضال من أجل التقدم الاجتماعي المرتبط حكماً بالنضال ضد الإمبريالية، من أجل كرامة الوطن والمواطن.

العدد 1105 - 01/5/2024