دون كارلوس،لفيردي: ضد محاكم التفتيش بعيداً من روما

في عام 1867 كان الأوبرالي الإيطالي الأكبر جوزيبي فيردي قد تجاوز الخمسين من عمره ووصل إلى قمة مجده، حين قرر أخيراً أن يحقق مشروعاً أوبرالياً ظل يداعب فكره ويتردد في تحقيقه طوال أكثر من خمسة عشر عاماً. ولربما ساعده يومها على اتخاذ قراره أن العمل الذي يتعلق به المشروع، لم يكن سيقدم في عرضه الأول، في روما أو أية مدينة إيطالية تخضع بشكل أو بآخر للسلطة البابوية التي اعتاد فيردي أن يكون حذراً تجاهها وغير راغب في إغضابها، بل في فرنسا وتحديداً لمناسبة إقامة المعرض العالمي فيها. صحيح أن تلك الأوبرا لم تكن تحمل أي عداء للكنيسة أو للإيمان في حدّ ذاته، وإنما قدراً ما من العداء لمحاكم التفتيش وذهنيتها. تلك المحاكم التي على رغم انقضاء نفوذها، بل حتى وجودها في الزمن الذي عاش فيه فيردي، فإنها كانت لا تزال جرحاً في خاصرة الكنيسة، وكان من عادة فيردي أن يحاذر الحكّ على ذلك الجرح. ومن هنا رآها فرصة مناسبة مادام العمل سوف يقدّم هناك بعيداً في فرنسا، وفي زحام معرض عالمي يحفل بكثير من الأعمال والضجيج. وهكذا كان: لحّن فيردي الأوبرا خلال فترة قصيرة من الزمن لتقدم للمرة الأولى في صالة أوبرا باريس يوم الحادي عشر من آذار (مارس) 1867. والأوبرا التي نتحدث عنها هي طبعاً (دون كارلوس).

قبل أن تكون أوبرا بألحان فيردي كانت (دون كارلوس) عملاً مسرحياً كُتب وقُدّم على خشبات أوربية عديدة، بخاصة على مدى قرون طويلة في إسبانيا، وكان هذا طبيعياً بالنظر إلى أنها تتناول حدثاً غامضاً وفريداً من نوعه في التاريخ الإسباني، وهو اختفاء الأمير دون كارلوس، الابن البكر للملك الإسباني فيليب الثاني، في القرن السادس عشر دون أن يُكشف السرّ عن ذلك الاختفاء. بالنسبة إلى أوائل الكتّاب الإسبان الذين تناولوه، كان الأمر صراعاً على العرش، ثم كان صراعاً بين الأب وابنه من حول وقوف الابن، دون كارلوس، إلى جانب مطالبة أهل الفلاندر بخروج الاحتلال الإسباني من ديارهم، ما أغضب الأب في الحالتين ودفعه إلى التخلص من ابنه بمساعدة دهاقنة محاكم التفتيش الذين لم يتوانوا عن تحريض الملك ضد الابن. ومهما يكن من أمر، فإن المسألة احتاجت إلى دخول الشاعر الألماني فردريك شيلر على الخط، كي يستخلص حبكة أخرى تلمسها في ثنايا عدد لا بأس به من النصوص الإسبانية. وهذه الحبكة تتحدث عن صراع بين فيليب وكارلوس على امرأة. وهو صراع دخلت محاكم التفتيش على خطه بقوة لتدفع الأب إلى التخلص من ابنه تحت تلك الذريعة السياسية التي أبداً ما تبدّت مغرية. وهذه النسخة الشيليرية من الحكاية ستكون هي المعتمدة منذ كتابة الشاعر الألماني الكبير مسرحيته، بما في ذلك في الأوبرا التي لحنها فيردي انطلاقاً من النص الشعري الذي كتبه بالفرنسية كل من جزيف ميري وكاميل دولوكل، في اقتباس مباشر، على أي حال، من مسرحية شيلر التي، منذ صدورها، غطت على كل الأعمال التي تناولت تلك الحكاية.

ولا ريب أن ما ساعد على ترسّخ تلك المسرحية، ومن ثمّ الأوبرا المقتبسة عنها، كان الفرضية البديعة والخيالية التي ختم بها شيلر نصّه وأعطت فيري، موسيقياً ودرامياً، إمكانية أن يختم هو الآخر أوبراه بمشهد يرى كثر من النقاد أنه أوصل عمل فيردي إلى ذروته، معوضاً على كلاسيكية وعادية الألحان التي توزعت على فصول الأوبرا: المشهد الذي يدور في دير سان جوست، حيث يلتقي دون كارلوس قبل عودته النهائية إلى مقر حاكميته في الفلاندر، بالملكة إليزابيت، زوجة أبيه فيليب، لوداع أخير، فيضبطهما الملك هناك مرفقاً بالرئيس الأكبر لمحاكم التفتيش معتقداً أنهما يزنيان. وإذ يحرّض المفتش الأكبر، هنا بكل ما لديه من قوة وحقد، الملك طالباً منه (الاقتصاص الإلهي) من ابنه وزوجته، يُفتح بشكل مباغت وعجائبي، ضريح الملك الجدّ الراحل شارلكان الذي يمد ذراعه ساحباً معه دون كارلوس إلى داخل القبر، موفّراً عليه شقاء أن يُقتل ظلماً بيد والده، وعلى الأب اقتراف جريمة تريده محاكم التفتيش أن يقترفها. طبعاً نعرف أنها نهاية غير منطقية، لكنها أتت لدى شيلر، ومن بعده في أوبرا فيردي، حلاً درامياً خلاقاً من شأنه أن يقترح إجابة عن السؤال الأبدي المتعلق باختفاء دون كارلوس، ومتيحاً الفرصة لتلك الموسيقا الكبيرة التي وضعها فيردي للمشهد، وقارب كثر بينها وبين أروع الألحان التي وضعها لواحدة من أكبر أوبراته، (قوة الأقدار).

مهما يكن، لا بد هنا، من العودة إلى سياق أحداث الأوبرا نفسها، والتي أوصلت إلى تلك النهاية. فالحكاية تبدأ في فرنسا حيث يلتقي دون كارلوس، ابن الملك الإسباني فيليب الثاني، في غابة فونتيبيلو غير بعيد من باريس، الأميرة الحسناء إليزابيت، ابنة ملك فرنسا. على الفور ينشأ يومها بين الشاب والفتاة غرام هادئ وعميق يتعاهدان على استكماله بالزواج، ما إن يستشير الفتى أباه الملك. وبالفعل سنعرف هنا على الفور أن فيليب كان في الأصل قد قرر، ولأسباب سياسية، أن يزوّج دون كارلوس إلى الأميرة الشابة، لكنه سرعان ما يبدل رأيه، وربما أمام مرأى الفتاة، ليقرر اتخاذها زوجة له هو، مستثيراً إذ يعلن هذا، غضباً وحزناً عميقين في قلبي الحبيبين الشابين. وهنا، لأن إرادة فيليب لا يمكن التصدي لها، ينصح رودريغو مركيز دي بوزا صديقه دون كارلوس بالانتقال إلى الفلاندر بأمل أن ينسى هيامه دون أن يصطدم بأبيه متصدياً لإرادته، قائلاً له إن تلك المنطقة الخاضعة احتلالاً للعرش الإسباني تحتاج حاكماً متنوراً. مؤكداً له أنه لن يلبث هناك، إذ يضع نفسه في خدمة السياسة والشعب، أن ينسى عواطفه ويستأنف حياته عاضّاً على جرحه. يوافق كارلوس على هذا لكنه يبدي رغبته في أن يلتقي إليزابيت قبل سفره. بيد أن هذه، إذ أصبحت الآن ملكة إسبانيا، تبدّي إخلاصها ووظيفتها الملكية على عواطفها رافضة محاولات دون كارلوس مغازلتها وإقناعها بالهروب معه. تقول له إن الماضي قد مضى وأن الزمن كفيل بندب الجراح.

 في فترة لاحقة خلال احتفال يقام في حدائق القصر الملكي، يلتقي كارلوس امرأة مقنّعة سيخيل إليه أنها إليزابيت، فيعاود بث لواعجه في مسمعها. غير أن هذه لم تكن في الحقيقة سوى الدوقة إيبولي التي تعيش غراماً بكارلوس من طرف واحد. ولذا، ما إن يتبين لها أن كلام الهوى لم يكن موجها إليها بل إلى إليزابيت، وتدرك أن الملكة هي غريمتها، حتى تستشيط غضباً، وتقرر أن تنتقم وأن يكون انتقامها فظيعاً. وبعد فترة من سفر كارلوس إلى مركز عمله في الفلاندر، وفيما يكون موكب ملكي خارجاً من احتفال صاخب في كنيسة ضخمة، يقطع الطريق على الموكب وفد آتٍ من منطقة الفلاندر بقيادة دون كارلوس نفسه، الذي يقف في حضرة أبيه الملك راجياً منه أن يمنح الفلاندر نوعاً من الحكم الذاتي، كما أن يضع حداً لموبقات محاكم التفتيش وممارسات قياداتها الظالمة التعسفية. وهنا ينفعل فيليب غاضباً ويعلن أن كارلوس وأعضاء وفده متمردون يجب معاقبتهم، فيستل كارلوس سيفه غاضباً، لكن صديقه رودريغو يردعه ويهدئ من الموقف، إنما دون أن يمحو غضب الملك الذي تتآكله غيرة من ابنه بسبب اعتقاده بوجود علاقة له مع إليزابيت، ناهيك بغضبه عليه جراء تمرده. ويزيد الطين بلة هنا صبّ المفتش الأكبر الزيت على النار، ناصحاً الملك بعدم التهاون لا مع ابنه ولا مع الزوجة الزانية، ولا حتى مع رودريغو. بيد أن الدوقة إيبولي التي تشفى من حقدها تتدخل هنا لتهدئة الأمور، معترفة بدور لعبته في المكيدة كلها… وفي النهاية إذ يُقبض على رودريغو ويُقتل، يشعر دون كارلوس أنه لم يعد أمامه سوى الرحيل هذه المرة إلى الفلاندر، لكنه يلاقي إليزابيت مرة أخيرة في ذلك الدير الذي يشهد الخاتمة التي سبق الحديث عنها، فتكون النهاية المأساوية والغامضة لحكاية جرحت العرش الإسباني وحولت دون كارلوس نفسه إلى أسطورة، عرف حوزيبي فيردي (1813 – 1901)، كيف يلتقطها في لحظة ملائمة ليحوّلها ذلك العمل الأوبرالي، الذي سيقول النقاد يبدو كأنه أراد أن يقدم فيه ملخصاً لمجمل إبداعه الموسيقي، ونجح في ذلك، حتى وإن جازف بألا يحمل العمل أي جديد مفاجئ… على الصعيد التلحيني على الأقل.

(الحياة)

العدد 1107 - 22/5/2024