الأجور وتكاليف المعيشة

تعد سياسة الأجور من أهم السياسات التي تنتهجها الدول لتحقيق جزء من العدالة الاجتماعية، ولتأمين الحاجات الأساسية للمواطنين من تعليم وصحة وعمل وحريات، وكلما كان الحد الأدنى للأجور يلامس متطلبات العيش الكريم المحترم، كانت هذه السياسة صحيحة وبناءة، بينما كلما زادت الفجوة بين الأجور والمتطلبات ،
أدى ذلك إلى أمراض اجتماعية واقتصادية. وهكذا فالفجوة بين الأجر الممنوح ومتطلبات العيش الكريم هي مؤشر مهم جداً، وهدف الدول عبر سياساتها التنموية ردمها وزيادة الأجور بمعدلات  تحقق الرفاهية للمواطنين.

وفي سورية قدّر المكتب المركزي للإحصاء في عام 2009 متوسط إنفاق الأسرة السورية المؤلفة من 5 أشخاص، شهرياً، يصل إلى 30 ألف ليرة سورية، بينما لم يتجاوز متوسط دخل الفرد آنذاك بحدود 11400 ل.س، شهرياً،
في القطاعين العام والخاص سوية. فالخلل بين الأجور ومتطلبات المعيشة سابق للأزمة وقد كان خللاً بنيوياً،  ولكن الفجوة قد اتسعت اتساعاً كبيراً بفعل الأزمة وما نجم عنها من تضخم أسعار لم يترافق مع زيادة مناسبة بحجم الأجور، وهذا ما نستدل عليه من خلال مقارنة حجم الأرباح بالأجور بين عامي 2010 و 2016، إذ كانت نسبة الأرباح عام 2010 تقدر بــ 75% بينما كانت الأجور 25% وأصبحت الأرباح 89% عام 2016 مقابل 11% للأجور، وهذا دليل على ارتفاع الأسعار مقابل انخفاض الأجور على الرغم من التضخم الحاصل والمقدر بحوالي 1100 %
وهذا لا يختلف عن دراسات المكتب المركزي للإحصاء  الذي قدر  تكاليف المعيشة للأسرة السورية، بـ203 آلاف ليرة في شهر آب 2016 مقارنةً بسنة الأساس 2010، وزادها أول العام الحالي بسبب ارتفاع نسبة الأسعار مع ثبات الأجور، ما يعني أنه يجب مضاعفة وسطي الأجور البالغ 26 ألفاً عام 2016 حوالي 9 أضعاف لتستطيع الأسرة أن تغطي احتياجاتها وفق الأرقام الحكومية،  وهو ما يعني أن المبلغ المطلوب لأسرة مؤلفة من 5 أشخاص يبلغ حوالي 300 ألف ليرة سورية، وهذا المبلغ يختلف من أسرة لأخرى حسب مكان السكن وتكاليف الانتقال وحسب الحالة الصحية وغيرها.
وبذلك فإن حجم المداخيل التي تحتاجها الأسرة لتكون فوق خط الفقر يتراوح بين 250 و300 ألف ليرة، مع عدم نسيان ما تعنيه الطبقة الوسطى من متطلبات كونها موازنة للمجتمع وأس للانطلاقة الصحيحة. وحسب إحصائيات الأمم المتحدة يكون الشخص بحاجة إلى دولارين يومياً ليكون فوق خط الفقر ودولار واحد ليكون بسوية الفقر المدقع.

لا يمكن نكران دور الحرب المدمرة السلبي  الكبير على مختلف نواحي الحياة بما فيها  الاقتصادية، ولكنه لم يكن التأثير الوحيد لزيادة الفجوة بين الأجور وتكاليف المعيشة رغم ما خسره الاقتصاد السوري بما يقدر بحوالي 300 مليار دولار من خلال تدمير آلاف المنشآت وملايين المباني وآلاف المدارس ومئات المستشفيات والجسور، وخروج أغلب الأراضي من الخدمة او من السيطرة،
وسرقة ونهب المحاصيل وكذلك تهريب مليارات الدولارات. وحسب الإحصاءات هرّب إلى لبنان فقط أكثر من 16 مليار دولار، وما استنزفت البلاد من تكاليف للتسليح وغيرها، ورغم  ذلك فإن للعقلية التي أدير بها الاقتصاد أثراً موازياً وأكبر، كما كان لتأثير قوى الضغط من قبل مراكز قوى اقتصادية تأثير واضح على القرارات، ونلمسه من خلال رفع أسعار الأسمنت والأسمدة والأدوية مصحوباً بعرقلة عمل معامل القطاع العام بالمواد نفسها. وبالتالي إن لاستمرار عقلية المراضاة والمحاباة لبعض القوى الاقتصادية استمراراً للنهج الذي كان مدخلاً لما حصل بسورية يزيد من المعاناة ويزيد الفجوة بين الأجور وتكاليف المعيشة.
فمن خلال الأزمة قلّ عرض المواد و تقلصت الموارد، ولكن الموضوع بدأ من أول الأزمة عندما كانت هناك مخازين تكفي لسنوات، وكان هناك احتياطي نقدي يفوق الـ25 مليار دولار عدا الذهب هذا الاحتياطي الذي هدر جزء منه عبر قرارات غير مفهومة واستمر الهدر عبر سياسات نقدية تعاكس الواقع و تخالف الحاجة الأزموية للبلد، وسط تغاضٍ واضح عن هذه السياسة التي  دمرت مدخرات المواطنين وكانت دافعاً للرفع المتوالي للأسعار ومحاباة لدواعش الداخل الذين لا يريدون للحرب أن تنتهي،
و يراهنون على الإسقاط والانهيار الاقتصادي للبلد,  واستمرت هذه السياسات التي تحابي من اكتنز الدولار على حساب الليرة السورية، وتحابي من جلس على التلة في الخارج ينظر إلى ما يحصل، وتحابي من هرّب أمواله ودولاراته! وكذلك لم تكن السياسات الاقتصادية بأفضل وخاصة وزارة حماية المستهلك التي أنشئت لهذا الدور، فكانت استمرارية للترهل والفساد الذي كان قبل الأزمة،
ولم تستطع التدخل بما يختلف عن أسعار السوق لمحتكري المواد الذين كانت تعتمد عليهم الوزارة لتوريد موادها بدلاً من تفعيل دور مؤسسات التجارة الخارجية، وبالتالي ما يسمى مؤسسات التدخل الايجابي لم تكن تتدخل، وغالباً تتدخل بما يكرس أسعار محتكري المواد، وأغلب عقوباتها لم تكن ردعية. وكذلك السياسة المالية التي ضاعفت الرسوم والضرائب عشرات المرات ومنها رسوم التعليم والصحة وغيرها، وكل هذا أدى إلى وصول التضخم إلى عشرة أضعاف وأكثر. والملاحظ أن سياسات الحكومات بدلاً من احتواء التضخم والتخفيف منه، كانت تكرسه بقراراتها، ومنها قرارات رفع أسعار سلع ومواد وأجور من دون أي تغيير في المؤشرات كما حصل بالأسمنت مرات كثيرة، وكذلك الأدوية و الأسمدة. وترافقت هذه الزيادة مع عرقلة معامل القطاع العام ومنع انطلاقتها، ومعمل أسمدة حمص و تاميكو خير دليل. عقلية تخسير القطاع العام وقتله استمرارية لسلوكيات سبقت الأزمة بسنوات،
فكم من معمل أوقف وكان في كامل طاقاته الإنتاجية!؟ وكم مرة وضع ملف إصلاح القطاع العام في الأدراج رغم تكاليفه المنخفضة، والغاية أسوأ من الخصخصة وهي بيع الأراضي أو احتكار استيراد المواد التي ينتجها هذا القطاع وبأسعار مضاعفة لأسعاره , وهنا لم يفهم المتابع من خلال رفع الأسعار والرسوم، وكما حصل بالضروريات وبأسعار الطاقة هل الهدف الترشيد أم ترضية البعض على حساب المواطن؟ أم عدم قدرة على فرض الرؤى؟ أم جهل بالقراءة الحقيقية للواقع؟ إن كان الموضوع ترشيداً من خلال رفع الأسعار فهناك طرق أخرى ومنها تخصيص الحصص.
وإن كان جهلاً فإن الاصلاح الإداري كفيل بتعيينات وفق توصيف وظيفي يوصل كفاءات فاعلة وقادرة و مفرملة للفساد الذي زاد أضعافاً مضاعفة. وليعلم المنظرون أن استهلاك الـــ10 % من ممتلكي الثروات من الأموال السوداء وتجار الأزمات يزداد كلما ارتفعت الأسعار، وبالتالي لا يتأثرون بقرارات كهذه قد جعلت 90 % من الشعب السوري تحت خط الفقر، وخاصة أن عدد المهجرين تجاوز 7 ملايين داخل البلد ومثلهم خارج البلد.

إن الوضع المزري لأغلب شعبنا نتيجة هذه الظروف الصعبة وما نجم عنها من تفشي الفوضى وزيادة الفساد وتضخم البطالة وأعداد الفقراء يتطلب عملاً وطنياً دؤوباً ومستمراً وفق مقتضيات الحاجة، وانطلاقاً من واقع ليس بالسوء الذي يروج له ولكن هذا بحاجة إلى إرادة ونوايا تُغلّب مصالح البلد وأغلب الشعب،
على شخصنة بعض القرارات ومحاباتها للبعض، والضرب بيد من حديد لكل من يحاول اللعب بلقمة عيش الشعب ويحاول تكديس الأموال عبر فساد علني وتجارة علنية بدماء أبناء الوطن وإن هؤلاء يوازون أو أشد إرهاباً من حملة السلاح، ولكن وفق الظروف الحالية لا يمكن زياد الأجور في ظل عدم وجود إمكانية للتحكم بالأسعار وفق سلبية أداء وزارة حماية المستهلك ومؤسسات التدخل،
ووسط إضعاف دور القطاع العام كقوة إنتاجية رافدة للسوق وفق رؤية غريبة عجيبة. ففي ظروف كهذه أدوات الحكومة هي التي تحقق سياساتها، وهي المنقذ لقلة المعروض من الكثير من المنتجات،
وكذلك لأن أغلب الشعب مهجرون ونصفهم عاطل عن العمل، وكذلك وفق عدم إمكانية فرض هذه الزيادة على القطاع الخاص، إنما يجب أن تكون هناك منح متباعدة إضافة إلى زيادة المعونات، والعمل على دعم وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة لاستثمار أغلب الإمكانات.

في ظل صعوبة تمويل المشاريع الصناعية الكبيرة وصعوبة جذب الاستثمارات في ظل عدم توفر الأمن بشكل عام، لا بد كذلك من تغيير الخطط الزراعية بما يناسب الأزمة والحاجات وفق أولويات الحاجات الماسة، ودعم القطاع الزراعي بفرعيه الحيواني والنباتي مهم جداً ويجب توفير المستلزمات عبر أقنية الحكومة وليس عبر محتكري القطاع الخاص، وكذلك تشجيع ثقافة استغلال المساحات الضيقة.

إن العمل مستقبلاً يجب أن يكون وفق سياسات مالية ونقدية تقوض التضخم وتعيد سعر الصرف إلى ما يراعي ظروف البلد ويعيد الثقة بالاقتصاد، وبما يحقق عدالة فلا يحابي بعض المكتنزين الذين هم كانوا أداة اللعب بسعر الصرف، وكذلك لا بد من فرض القوانين بالقوة، وإعطاء الصلاحيات للمؤسسات لضرب الفساد بيد من حديد تعيد القانون وتلغي الفوضى المفتعلة.

إن الاستثمار الكامل لكل طاقات البلد وإمكاناته كفيل بإعادة التوازن بين الوضع المعيشي والأجور، ولا بد من تعاون وتشارك الجميع: قطاع عام يجب العمل على عودته لتوفر كل الإمكانات، وقطاع خاص وطني وفق أجندات تفرضها حاجة البلد و ضرورات صموده و بقائه، وكل هذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر سياسة تعيينات تعتمد الكفاءة ووفق قوانين تعيد الكثير من الكفاءات و العقول التي هاجرت، أو الاستثمارات التي هربت أو نقلت إلى الخارج,
دولة المؤسسات القوية بمواجه قوى التأزيم والفوضى هي عنوان أساسي للعودة الصحيحة لتحقيق تحسين مستوى معيشة المواطنين و تقويتهم لتحصين الوطن ودحر المخططات الخارجية.

العدد 1105 - 01/5/2024