سـورية.. بين أيزنهاور وأوباما

بعد أسبوعين على هزيمة كل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل في حرب السويس، ألقى الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور في الخامس من كانون الثاني عام 1957 خطاباً أمام الكونغرس الأمريكي، تضمن ضرورة قيام الولايات المتحدة بإملاء الفراغ في منطقة الشرق الأوسط قبل أن تتعرض المنطقة لهيمنة الاتحاد السوفييتي عليها، مما يؤدي إلى تعريض المصالح الأمريكية للخطر المباشر. وتضمن أيضاً تقديم المساعدة المالية إلى الدول العربية من أجل التنمية الاقتصادية، وربط هذه المساعدات بمقاومة الشيوعية ودعم سياسة الأحلاف، وتفويض الرئيس الأمريكي سلطة استخدام القوة العسكرية في المجالات التي يراها ضرورية، لضمان السلامة الإقليمية ولحماية الاستقلال السياسي لأي دولة أو مجموعة من الدول في منطقة الشرق الأوسط إذا ما طلبت مثل هذه المساعدة، لمقاومة أي اعتداء سافر تتعرض له من قبل أي مصدر تسيطر عليه الشيوعية الدولية، وتفويض الحكومة تقديم العون الاقتصادي اللازم لهذه الدول دعماً لقوتها الاقتصادية وحفاظاً على استقلالها الوطني.

أثار إعلان هذا المبدأ ردود أفعال قوية لدى الدول العربية، وفي الوقت الذي أعلن فيه الأردن موافقته واستعداده لقبول كل عون أو مساعدة، سارعت الحكومة السورية إلى إصدار بيان تضمن رفض نظرية إملاء الفراغ، وأن تكون للدول الكبرى حق في التدخل في الشؤون الداخلية للمنطقة، ونص البيان أيضاً على أن الخطر المباشر الذي يهدد الوطن العربي ليس الشيوعية، وإنما الاستعمار والصهيونية، وأن مسألة الأمن في المنطقة من اختصاص دولها.

أدى هذا الإعلان (المبدأ) إلى انقسام في الصف العربي، إذ رفضت سورية ومصر هذا المبدأ، بينما أعلنت كل من الأردن والسعودية موافقتهما عليه، ما أدى إلى تدهور العلاقات السورية الأردنية، بعد أن كانت تعيش حالة من التطور الإيجابي بعد قيام الأردن بطرد غلوب باشا قائد الجيش الأردني، وسارع الرئيس الأمريكي إلى القول بأن استقلال الأردن وسيادته وسلامة أراضيه تعدّ أمراً حيوياً وأساسياً للمصالح الوطنية الأمريكية والسلام العالمي..

وبدأت الولايات المتحدة بالضغط على سورية من أجل قبولها لمبدأ أيزنهاور، وخاصة بعد تطور العلاقات السورية السوفييتية إثر زيارة وفد من الاتحاد السوفييتي إلى سورية، ما نتج عن ذلك تصريحات أمريكية بأن الولايات المتحدة قد تدخل في حرب مع سورية إذا هاجمت الأردن، ونتيجة لهذه الضغوط تدهورت العلاقات السورية مع الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، وأخذت تتحسن مع الاتحاد السوفييتي، بعد إعلانه عن استعداده لشراء المنتجات السورية، وعقد اتفاق مع سورية بعد زيارة رسمية قام بها خالد العظم وزير الدفاع تم بمقتضاه تقديم المساعدة الاقتصادية والعسكرية لسورية، ما استدعى انتباه أمريكا وبريطانيا بأن الاتحاد السوفييتي ضمن الحماية لسورية من العدوان ونجح في اكتساب حلفاء جدد، وساد في تركيا قلق شديد بعد إعلان الاتفاق بين الجانب السوري والسوفييتي، الأمر الذي اعتبر أن تركيا أصبحت محاطة بدول محالفة للشيوعية، وطالب العسكريون الأتراك اتخاذ خطوات سريعة، وقام عدنان مندريس رئيس الوزراء التركي بإجراء مباحثات مع ملك العراق وملك الأردن باسطنبول، كما استدعى السفير الأمريكي في أنقرة ليبدي له انزعاجه من هذه الاتفاقية، وتطورت الأحداث بسرعة وأعلن في دمشق عن كشف مؤامرة لقلب نظام الحكم، وأن السفارة الأمريكية كانت وراء ذلك، ما أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين سورية وأمريكا، وباتت سورية بنظر الأمريكان توشك على الوقوع في براثن الشيوعية، رغم تأكيد سورية التزامها بالحياد الإيجابي..

إلا أن أمريكا وبريطانيا باتتا على قناعة بأن سورية لم تعد في معسكر عدم الانحياز، وأن هناك شيئاً ما يجب فعله لمنع تخريب دول الجوار، لذلك آثرت أمريكا الاعتماد على حلفائها في المنطقة للتصدي للتهديد السوري، وأرسلتا نائب وزير الخارجية هندرسون للقيام بجولة في المنطقة بدءاً من تركيا، حيث تباحث مع عنان مندريس رئيس الوزراء التركي وكل من ملكي العراق والأردن اللذين كانا في أسطنبول، ثم طار إلى بيروت والتقى مع الرئيس اللبناني، وخرج هندرسون من مباحثاته مع الدول الأربع بضرورة القيام بعمل عسكري ضد سورية، ونشرت صحيفة النجم الأحمر خطة أمريكا لغزو سورية التي تقوم على قيام إسرائيل باستفزازات عسكرية على الحدود السورية، وحشد القوات التركية على الحدود الشمالية، وحشد القوات العراقية على الحدود الشرقية، والبدء بالغارات الجوية العراقية والتركية على القوات السورية، بحجة خرق القوات السورية لحدود البلدين، وبدأ الزحف العراقي التركي باتجاه سورية. وقد أثارت تحركات هندرسون عاصفة كبيرة في المنطقة، فقد اتهمت موسكو الولايات المتحدة بأنها تمهد الطريق للتدخل مباشرة، وأكدت الحكومة السوفييتية أن الشعب السوري أمام هذه الضغوط التي تمارس عليه لا يقف منفرداً.. كما وجه رئيس الوزراء السوفييتي نيقولا بولغانين رسالة إلى عدنان مندريس رئيس الوزراء التركي، حذر فيها من أن الاتحاد السوفييتي لا يمكن إلا أن يأخذ بالحسبان مسألة تطور الأحداث بالمنطقة، انطلاقاً من قرب منطقة الشرق الأوسط من حدوده وتقديراً لمصالح دولته. وطلب من تركيا عدم المشاركة في التدخل المسلح في سورية.

إن تطورات الأحداث جعلت من تركيا أصل الأزمة السورية التي أخذت بالتراجع نتيجة حدة الموقف السوفييتي، كما أن الدول العربية المجاور لسورية التي كادت أن تشارك في المؤامرة أخذت بالتراجع عن المشاركة، حرصاً على أمنها، بعد الحملات الإعلامية التي شنت عليها ونتيجة للموقف المصري المؤيد لسورية، ونتيجة لتصاعد التيار القومي المؤيد لها، وقد تقدمت الحكومة السورية في تشرين الأول من العام نفسه بشكوى إلى الأمم المتحدة حول التهديد التركي لأمن سورية، ودعم الاتحاد السوفييتي هذا الموقف بموجب مذكرة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة حول الاستفزازات التركية على الحدود السورية، وانتهت الأزمة باتفاق سوفييتي أمريكي يهدف إلى خدمة السلام في الشرق الأوسط والسلام العالمي، وعودة العلاقات الدبلوماسية السورية الأمريكية.

لقد فشلت تركيا سياسياً وعسكرياً، ما دفع بالمؤسسة العسكرية التركية نتيجة ارتداد الأزمة السورية عليها إلى الإطاحة بحكومة عدنان مندريس وإعدامه هو ووزيره في عام 1960.

وما أشبه الأمس باليوم..

منذ الاستقلال إلى الآن، لم تكن سورية بعيدة عن دائرة الاستهداف من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، من عهد ترومان حتى إدارة أوباما، لذلك فإن الأزمة التي نعيشها اليوم ليس وليدة  الساعة، إنما جرى التمهيد لها منذ غزو العراق وسقوط بغداد في التاسع من نيسان ،2003 وقدوم كولن باول وزير الخارجية الأمريكية إلى دمشق حاملاً معه إملاءاته الثمانية التي تتضمن إغلاق مكاتب المقاومة الفلسطينية، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران وحزب الله، والعمل على توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، وقد رفضت سورية هذه الإملاءات جملة وتفصيلاً، وموجة الشعارات التي بدأت أمريكا بطرحها كالشرق الأوسط الجديد والكبير، والفوضى الخلاقة، والهلال الشيعي، التي روجت لها الدعاية الإعلامية، والمتاجرة بمقتل الرئيس رفيق الحريري، واتهام سورية مباشرة بمقتله، إلى توجيه إسرائيل للقيام بعدوان تموز ،2006 وتبشير وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس بميلاد الشرق الأوسط الجديد،

ومثلما كان للرئيس الأمريكي الذي أشرنا إليه، كان للرئيس أوباما مشروع تجاه سورية والمنطقة، المتضمن دعم أي جماعة معارضة في الحصول على مساعدات اقتصادية ومالية أو عسكرية وغيرها من الولايات المتحدة، في حال تعرضها لضغوط حكومتها التي لا تخدم المصالح الأمريكية، ورأت أمريكا في إيران الحليف الوحيد لسورية، وتغيير النظام فيها يؤدي إلى خروج سورية من دائرتها (كما تعتقد) مما يتيح لأمريكا السيطرة على الشرق الأوسط، ويمكّن المعارضة من استلام السلطة في سورية، ما يعني خسارة لروسيا المنافس الرئيس لها في الشرق الأوسط، وقد أوكلت لعب هذا الدور إلى فرنسا وتركيا بالتعاون مع السعودية والاردن وقطر، بسبب الوضع الخاص لسورية وقوتها على المجابهة، الأمر الذي دعا أمريكا إلى المزيد من التدخل في الشأن السوري عن طريق فرض العقوبات الاقتصادية بالتعاون مع الاتحاد الأوربي، وشن الحملات الإعلامية والقيام بدعم الإرهاب بالمال والسلاح غير المشروع. لهذا نرى أن الأزمة التي نعيشها منذ عام 2011 حتى الآن يقودها الرئيس أباوما، بالطريقة نفسها التي قادها الرئيس أيزنهاور من قبل، وبالأدوات ذاتها من تركيا إلى الأردن إلى إسرائيل إلى بعض لبنان باستثناء العراق الذي يتعرض للمؤامرة نفسها، إضافة إلى الأدوات التي عملت في الظل عام 1957 وخرجت إلى العلن كالسعودية الوهابية والدويلات الجديدة العهد كالمشيحات الخليجية التي تعهدت بتغطية نفقات هذه الحرب الضروس على سورية.

ومثلما كانت العثمانية وطروحاتها في عهد رئيس الوزراء السابق عدنان مندريس، ظهر أردوغان في عثمانيته الجديدة وطموحاته السلطانية ليتنبى مسألة الحرب على سورية عن طريق بناء المعسكرات لاستقبال الإرهابيين القادمين من كل أصقاع الأرض وتدريبهم، وفتح الحدود لعبورهم وتزويدهم بالمعدات والسلاح والمؤن وكل أشكال الدعم اللوجستي والمخابراتي، كما كان للنظام الأردني دور مشابه للدور التركي، بإقامة غرفة موك التي يوجد فيها كل أجهزة المخابرات الأمريكية والأوربية والإسرائيلية والسعودية التي تقود العصابات الإرهابية في المنطقة الجنوبية في درعا والشريط الحدودي في القنيطرة، وكثيراً ما نجد العديد من المواقف والتصريحات السياسية والدبلوماسية الأمريكية والدولية تتطابق تماماً في الأزمتين، وكانت الحجة في الأولى وجود الخطر الشيوعي، وفي الثانية أن سورية هي إحدى دول محور الشر وتشكل خطراً على الأمن القومي الأمريكي..

بالمقابل نجد الدور الكبير الذي لعبه الاتحاد السوفييتي في إحباط الأزمة الأولى وإنهائها، والدور الكبير والإيجابي الذي لعبه الاتحاد الروسي في الأزمة الحالية، دفاعاً عن القانون الدولي وسيادة الدولة السورية، ومثلما انتهت أزمة عام 1957 بأن ما جرى في سورية هو شأن داخلي، ترى إدارة أوباما بان لا حل في سورية إلا الحل السياسي، لذلك نتطلع إلى إنهاء الأزمة بانتصار سورية، جيشاً وشعباً وقيادة، وبمساعدة الأصدقاء والحلفاء ضد هذا التآمر غير المسبوق على دولة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة، وانكفاء الدور التركي، وتضاؤل الدور التآمري إلى حد ما لدول الخليج. وإذا كان من آثار أزمة عام 1957 في تركيا استلام الجيش التركي وإعدام عدنان مندريس، نتطلع إلى تركيا بعد انتهاء الأزمة، بإنهاء حكم أردوغان وأن يلقى المصير ذاته، والأمل معقود على انتصار سورية على قوى التآمر بسواعد أبطال جيشنا العربي السوري وبصمود شعبنا ودعم أصدقائنا والقوى المحبة للسلام في العالم.

 

العدد 1105 - 01/5/2024