الإذاعة في رمضان!
لا أحد يشعر بمتعة أن يكون في الإذاعة في شهر رمضان المبارك، إلا إذا كان قد عاشها وتآلف معها سنة بعد سنة.. فالإذاعة تنبض كقلب كبير.. العاملون فيها يتوزعون في المكاتب والاستوديوهات والممرات وغرف المونتاج والمكساج والمراقبة، وكلها تتحرك في ورشة عمل تريد أن تقدم للمستمع شيئاً جديداً في رمضان.
في الأيام العشرة الأخيرة من شهر شعبان، تتحول الإذاعة إلى خلية نحل، وقد عشت مع هذه الخلية في سنوات مضت قبل أن أعمل فيها، ثم عشتها سنوات طويلة فيما بعد، فكيف كانت الإذاعة وكيف تكون؟!
إن أهم عنصر في الإعلام الوطني يعد العدة للصائمين في برامج تليق بالمناسبة المباركة، فالمخرجون يمضون الليل في وضع اللمسات الأخيرة على برامجهم، والممثلون يراجعون نصوص الدراما الإذاعية في آخر مرة قبل تسجيل أدوارهم التي ستصبح جزءاً من ذاكرة الصائمين : تجد الفنان الكبير دريد لحام وهو يدخل استوديو التمثيليات ليسجل تمثيلية الكنز مع الفنان الراحل ناجي جبر. وفي مرة ثانية تشاهد الفنان ياسر العظمة وهو يضع القفلة الأخيرة من التمثيلية الرمضانية اليومية. وفي غرفة الممثلين تشاهد فنانين آخرين يقرؤون ويراجعون مع كُتّاب النصوص والمخرجين آخر ما وصلوا إليه.
يمر المذيع الراحل مروان شيخو من أمامك، وهو يمسك بأوراق برنامجه اليومي تحية الإفطار، ثم يمر الفنان تيسير السعدي مع زوجته الفنانة الراحلة صبا المحمودي، وقد أنهيا تسجيل التمثيلية الفكاهية صابر وصبرية في آخر موجات السخرية النقدية التي كتبها الكاتب الراحل وليد مارديني.
في اليوم الأول من رمضان، يقلع الفن الإذاعي في أرقى مالديه، يسحر المستمعين بفنونه الراقية، فيمضي النهار ومؤشر الراديو عند السوريين على إذاعة دمشق، فمن فاتته برامج الصباح أمتعته برامج المساء، ومن سها عن برامج مابعد الإفطار رافقته برامج فترة الإفطار.
سِحْر خاص تأخذك الإذاعة فيه، فإذا أنت تطير على سحابة من الفن الإذاعي الخالص يؤجج لديك متعة الخيال لأن ترى ماتسمع، ويأخذك في نبضه إلى قلب مناسبة عظيمة هي الصوم!
فجأة..
انتشر التلفزيون انتشار النار في الهشيم، وظن كثيرون أن الإذاعة سيخفت نبضها. لا بل إن كل السحر الذي صنعته راح يتدفق إلى الشاشة الصغيرة يصنع سحر التلفزيون العربي الجديد وألقه، وبالفعل استقطب التلفزيون كثيرين، ولكن هل تراجع نبض الإذاعة في رمضان؟!
لا أحد يصدق، إن كل ذلك لم يستطع إلغاء الصوت الساحر لإذاعة دمشق من السحور إلى الإفطار!