«لا غنى للعالم عن العلوم.. ولا غنى للعلوم عن المرأة»

(( يُعدُّ اليوم الدولي للمرأة والفتاة في ميدان العلوم لهذا العام فرصة نستطيع جميعاً اغتنامها للتعبير عن تأييدنا لتعزيز دور الفتيات والنساء في ميدان العلوم… ما زالت النساء أقلية في مجال البحث العلمي واتخاذ القرارات الخاصة بالعلوم، ويجب أن يبدأ التقدم الكبير المنشود عن طريق تعزيز قدرتها على الإبداع والابتكار، لأن البشرية لا تستطيع تجاهل نصف طاقتها الإبداعية. ويجب علينا إلهام الفتيات والشابات عن طريق إتاحة فرص التوجيه الوظيفي للشابات المتخصصات في العلوم لمساعدتهن على التقدم الوظيفي.. فلا غنىً للعالم عن العلوم، ولا غنىً للعلوم عن النساء…)).

هذه العبارات تضمّنتها رسالة السيدة إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لليونسكو(*) في اليوم العالمي للمرأة في ميدان العلوم بتاريخ 11/2/2016 والذي أُقّر في عام 2015 حين اتفق المجتمع الدولي على أن العلم والمساواة بين الجنسين من العوامل الأساسية في تحقيق الأهداف العالمية للتنمية المستدامة بحلول 2030.

وانطلاقاً من ذلك، فقد عمل المجتمع الدولي على إشراك المرأة في مجال العلوم باعتبار أن نسبة النساء المُلتحقات في مجال العلوم لا تزال محدودة للغاية، وبحسب دراسة أجريت في 14 بلداً، تبيّن أن إمكانية تخرّج فتاة بدرجة بكالوريوس أو ماجستير أو دكتوارة في مجال من مجالات العلوم هي احتمالية تقل عن 18- 8- 2% بالتتابع، في حين أن نسبة تخرج الذكور في تلك المجالات بتلك الدرجات العلمية هي 37- 18-6% بالتتابع كذلك.

في سورية، إذا ما ألقينا نظرة خاطفة على نسبة الفتيات في التعليم العالي، نجدها مرتفعة مقارنة مع الفتيان. ولكن إذا ما حاولنا التعمّق في الاختصاصات التي تختارها الفتيات أنفسهن، نجد أنها تقتصر على العلوم الإنسانية والطبية بنسبة تفوق حضورهن في مجالات علمية أخرى ذات صلة بالفيزياء وتقنية المعلومات والحاسوب وما شابه.

وللعلم، هذه ظاهرة لا تقتصر على مجتمعاتنا فقط، وإنما تشمل مختلف المجتمعات البشرية، لكنها في مجتمعنا تعود لأسباب موضوعية تتعلق بالمجتمع والدولة، وذاتية متعلّقة بالمرأة ذاتها. 

الأسباب الموضوعية:

على المستوى المجتمعي:

– الموقف العام السلبي للمجتمع من العلم والعلوم.

– النظرة التقليدية السائدة فيه لمسألة تعليم الفتاة وموقفه منها، والمنطلقة من صورة نمطية للمرأة لا ترى فيها أكثر من مُنجبة ومربية وخادمة للزوج والأسرة، وأنه قدرها ومستقبلها الحتمي مهما حاولت تخطيه أو تغييره، باعتبارها أقل عقلاً وشأناً ومكانة من الرجل.

– حتى في البيئات الأكثر انفتاحاً والتي امتلكت الجرأة في تخطي موقف المجتمع من تعليم المرأة، فقد حصرته في مجالات واختصاصات تتطابق إلى حدٍّ كبير مع النظرة النمطية والتقليدية للمرأة كالتمريض والتدريس، وهذا ما جعل التحصيل العلمي للمرأة يقتصر على العلوم الإنسانية غالباً رغم أنها لاحقاً وصلت إلى الطب والصيدلة.

أمّا على مستوى الدولة:

– رغم أن الدستور ساوى بين الجنسين في مختلف الحقوق والواجبات، وأولى مسألة التعليم أهمية كبيرة، فغطّت المدارس كل التجمّعات السكانية وبضمنها تجمعات البدو الرُحّل، إضافة إلى التوسّع في التعليم العالي، وسنّ العديد من القوانين والتشريعات التي تؤطّر التعليم ومراكز البحوث والدراسات وما شابه، إلاّ أن التطبيق الحقيقي لمختلف هذه التشريعات ما زال هشّاً على أرض الواقع، لأنه لا يخضع لمتابعة جديّة وحثيثة من المعنيين.

– مُحاباة الساسة لرجال الدين في تطبيق بعض التشريعات التي تحدّ من تعليم الفتيات وتشجّع على الزواج والزواج المبكّر.

– عدم المطابقة أو المزاوجة ما بين النظري والتطبيق العملي في المعاهد والجامعات، وبالتالي بقاء البحث العلمي غالباً مقتصر على حلقات البحث التي تتطلبها مشاريع التخرّج، إضافة إلى عدم رصد الميزانيات الكافية لمشاريع البحث العلمي الجّادة والهادفة.

– عدم إجراء الدراسات والمسوحات التي تتعلق بحاجات المجتمع، والاكتفاء بورشات العمل التي لم ينتج عنها أثر يُذكر (بطالة الشباب الجامعي مثلاً). 

– إن الهيئة العليا للبحوث العلمية لا تُعنى بمثل هذه البحوث، وإنما تقتصر أنشطتها على البحث التطبيقي فقط.

– الدور السلبي للإعلام بكل وسائله في عدم التركيز على البحث العلمي عموماً، وعدم تشجيع المبادرات الفردية أو تسليط الضوء عليها إلاّ فيما ندر.

– الإعلام العربي بشكل عام يُركّز على برامج ترفيهية أكثر ممّا يُركّز على برامج العلوم وأبحاثها، ويرصد لهذه البرامج الميزانيات الضخمة في حين يُبقي على الباحثين من الجنسين مغمورين لا يتعرّف المجتمع على إنجازاتهم ليكونوا مثلاً أعلى للشباب. 

الأسباب الذاتية:

تعود للمرأة/الفتاة وموقفها من نفسها ومن العلم، إذ لا يمكننا إغفال تجذّر الصورة النمطية التي شكّلها المجتمع عن المرأة في لا وعي المرأة ذاتها، فقد تماهت تماماً مع تلك الصورة ضدّ نفسها حين اقتنعت كلياً أنها ما خُلِقَت إلاّ لتكون أمّاً وزوجة ومربية وخادمة للأسرة، وأن أي موقف أو رأي مخالف لنظرتها تلك عن ذاتها يمكن أن تعتبره إقلالاً من أنوثتها وأدوارها المعهودة، ما يقودها للتمرّد على هذا الموقف والرأي أحياناً. ومن هنا، فهي تعتبر التعليم والعلم مسألة غير ذات أهمية وليست أولوية ما دامت ستكون في النهاية أمّاً وزوجة. وحتى حين يكون لدى الفتاة رغبة في التعليم، وتُظهر ميولاً مُغايرة للسائد، فغالباً ما تختار الفروع الأقلّ جهداً وزمناً كي تتمكّن من إتمام وظيفتها المعهودة (الزواج والأمومة) فلا يفوتها هذا القطار!! لذا، ومن منطلق الاهتمام والتذكير بهذا اليوم العالمي، وأثناء بحثي عن أسماء لباحثات سوريات أستشهد بهنّ على تطور وعي المرأة السورية لذاتها ومجتمعها، يؤسفني أني لم أعثر سوى على اسمين هما: الدكتورة ميس عبسي، المُدرّسة في كلية الصيدلة بجامعة حلب، والتي حصلت على منحة الباحثات الشّابّات التي تقدمها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم اليونسكو ومؤسسة لوريال عن مشروعها البحثي بعنوان (الدور العلاجي لفيتامين د. في سلامة الجهاز القلبي الوعائي وعلاقته بترقق العظام) من بين15 منحة تقدمها المنظمة في مختلف أنحاء العالم وتخصص للأبحاث التي من شأنها إيجاد حل لإشكالية صحية وطنية. وكانت الدكتورة عبسي قد عملت على تأسيس مركز علمي لتأثير الأدوية الجزيئي، هو الأول من نوعه في سورية بالتعاون بين مجموعة من كليات جامعة حلب وجامعات أوربية، ودعيت خلال عام 2010 إلى جامعة جنيف بصفة باحث متميّز لتبحث على امتداد شهرين في زرع العضلات الهيكلية وتحري دور الكالسيوم في بعض الأمراض المرتبطة بهذه العضلات.

الدكتورة غنوة خضور، الباحثة في الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية، نالت الدكتوراه من جامعة غرونبل الفرنسية، كما نالت جائزة لوريال – يونسكو لمتابعة بحوثها العلمية في إيجاد مصادر مياه غير تقليدية في ظلّ أزمة المياه التي يعيشها العالم، وتركّزت بحوثها على استخدام مياه معاصر الزيتون كمياه بديلة للري. وقد صرّحت في هذه المناسبة بأن الباحثين والباحثات في سوريا يواجهون عوائق عدة، منها انقطاع الكهرباء والإنترنت وغياب الاستقرار النفسي وقلّة الدعم المادي والمعنوي. ولا تجد خضور فوارق بين قدرات المرأة العربية وغيرها إلاّ في مقدار الدعم المتوفر في الدول المتقدمة، مع الإشارة إلى أن المرأة الباحثة تعلّم الأجيال، وترفع اسم الوطن وتجد حلولاً للمشاكل الاقتصادية والمالية والعلمية التي تواجهها البلدان.

جدير بالذكر أن أول امرأة عالمة في التاريخ هي الإسكندرانية (هيباتيا) التي ولِدت عام 370 ميلادي، وعاشت إبانَ العهدِ الروماني مع بدايةِ انتشارِ الدينِ المسيحي في العالمْ. كانت عالمةَ رياضياتٍ وفلك وفيزياء وفلسفة، وتلك مجالات كانت حكراً على الرجال، لذا جرى سحلها في شوارع الإسكندرية، لأنها تجرأت على الذهنية البطريركية آنذاك.

*******

* برنامج اليونيسكو للنساء في مجال العلوم بالتعاون مع برنامج لوريال ـ تقديراً للباحثات اللاتي أسهمن من خلال إنجازاتهن في التصدي لتحديات الغد على الصعيد العالمي. وهو يقدم سنوياً 15 منحة لباحثات شابات واعدات في مجال العلوم على مستوى الدكتوراه وما بعد الدكتوراه، وذلك لتشجيع التعاون العلمي الدولي وتطوير الشبكات المشتركة بين الثقافات.

العدد 1107 - 22/5/2024