المُهاجر بين صراع الثقافات وفقدان الهوية

من إحدى مفارقات صراع الثقافات والأجيال وأغربها هي تلك التي تنشأ بين المهاجر والمقيم، أي الذي بقي في بلده ولم يهاجر حين يتقدّم الأخير على الأول بالثقافة والتطور والانفتاح، في حين من المُفتَرَض أن يسبق المهاجر المقيم بهذه العوامل بسبب الاغتراب والاطلاع على ثقافات جديدة والانفتاح والعلم.

إنّ بعض معاناة المهاجر تكمن في أنه لم يستطع أن يكون جزءاً من الثقافة المحيطة به القريبة أو البعيدة والتي ينتمي لها؛ فلا هو اندمَجَ مع ثقافة الغرب ولا واكبَ تطوُّر بلده الأم. ورغم أنه قد ينجح في عمله وهناك نماذج كثيرة من مهاجرين حقّقوا نجاحاً ملحوظاً على الصعيدين المِهني والعمَلي، لكن لم يكن هذا النجاح بالضَّرورة أداةً لتطوير الأفكار الذاتية والمعتقدات والموروث الثقافي (لبعض منهم)، وبالتالي أنا هنا لا أُعمِّم إنما أقدّم حالة عن فئة موجودة ونسبتها ليست بقليلة خاصةً مِمَّن هاجر فقط لتوفير حياة اقتصادية أفضل ولم يكترث بتطوير الحالة الثقافية والفِكرية.

هناك شرخ كبير بين بعض المغتربين الوافدين من دول الشرق الأوسط، والمُقيمين الذين بقوا في تلك البلاد ولم يهاجروا؛ هذا الشرخ يمتد من لحظة رحيل المهاجرين ويستمر معهم خلال حياتهم. ذلك أنهم يهاجرون حاملين معهم موروثهم الثقافي، في ذلك الوقت، وفي حين يختلف هذا الموروث جذرياً عن ثقافة البلد الجديد؛ يختلف أيضاً مع الوقت وسنوات الهجرة عن ثقافة بلدهم الأم، وبينما يتطوّر هذا الأخير مع الزمن؛ يبقى بعض المهاجرين في مكانهم يتصارعون مع موروثهم الأول ومع الحاضر.

إنّ التطور عملية مستمرة باستمرارية الحياة، ومتى توقّف التطور تتوقف معه حياتنا. من هنا، فإنّ أي عملية تغيير جغرافي في المكان يجب أن تصحبها عملية تغيير في الزمان أيضاً وتكون مستمرة مع استمرارية الحياة كي لا ينفصل الفرد المهاجر بعد فترة عن الزمان والمكان معاً ويصبح بلا هوية.

إنّ الهوية ليست بطاقة تعريف لاسم الفرد وصورته ومكان الإقامة؛ الهوية كيان يُعطي خاصية معينة للفرد تميّزه عن غيره بانتماءاته الفِكرية المتنوعة.

الهوية هي الوعي بالذات الثقافية والاجتماعية؛ الوعي الفردي والوعي الجمعي الذي يُحدد شخصية الفرد. هي انتماء الفرد أو الجماعة لمنظومة فِكرية ذاتية ومُجتمعية، بالضَّرورة مَبنية على قِيَم إنسانية، وهذه المنظومة مُتطوِّرة بتطوُّر الفِكر الإنساني ومُتغيِّرة بتحوُّل الواقع. مَن لم يتطوّر ولم يُجدّد أفكاره مع الوقت؛ يفقده هويتَهُ ويعيش ضائعاً يتصارع مع الحاضر والماضي ولن يكون جزءاً من المستقبل.

العدد 1105 - 01/5/2024