المثقفـون وازدواجية المعايير

كشفت الأزمة السورية حالة الوهن التي يعيشها المثقف في صميم علاقته بوظيفته الثقافية، إذ لم يعد يفرق فيها بين انتصاره لمبادئ كالحرية والحقوق الإنسانية.. وكل المعاني التي يتسم بها الخطاب الثقافي الحر.. وبين توظيف طاقته لخدمة أهداف تناقض مهمة المثقف الحر، فلم يكتف الكثير من المثقفين بالانكفاء على ذاتهم بل راحوا يتشدقون علينا بالقيم والشعارات الرنانة التي تخالف أفعالهم وتتناقض معها أحياناً كثيرة، كمحامي ينادي بالعلمانية والتحرر ولكنه أجبر ابنته وزوجته على ارتداء الحجاب، وآخر مهندس له عدد من المقالات ينتقد فيها زواج الصغيرات ويرفض الفارق العمري الكبير بين الرجل وزوجته، ولكنه عندما قرر الزواج وهو بعمر الخمسين اختار فتاة تصغره بـ25 عاماً، آراؤها تتناقض مع توجهاته وانتمائاته السياسة ولكن بسبب انتمائها إلى طائفته، ومن جهة أخرى ليضمن إنجاب الأطفال، وآخر يسعى لتطليق محامية من زوجها الكاتب لأنها أعجبته، فأضحت الثقافة في عُرف معظم المثقفين والمثقفات في عالمنا العربي وسيلة للشهرة والتقرب من الجنس الآخر المنفتح فكرياً، سعياً إلى استغلال ثقافته للوصول إلى مآرب شخصية بحتة ومحدودة بالأنا.

حالات كثيرة بتنا نلمسها في مجتمعنا ومنهم محامية شابة لها العديد من المقالات الصحفية تركز خلالها على تحرر المرأة وضرورة تمكينها لمواجهة المجتمع وقيوده، إلا أنها لا تتوانى عن القيام بأي عمل في سبيل الوصول إلى غايتها المنشودة ولو بأساليب غير أخلاقية، وكل ذلك تحت شعار تحرر المرأة، ومجتمعها الذي تتجه إليه بمقالاتها هذه سيستشهد بها وبسلوكها كامرأة مثقفة منفتحة ليحتج بها أمام غيرها من النساء المتحررات فكرياً بشكل حقيقي وملتزم ليقول لهن: هل هذه حرية المرأة؟

إن الانحلال الأخلاقي الذي يعيشه المجتمع اليوم والذي تكرس بأفعال الكثيرين من مدعي الثقافة ورافعي لوائها جاء نتيجة أن البعض منهم لم يعيروا اهتماماً للقيم والمبادئ، ونزعوا للبحث عن مصالحهم والتوجه مع التيار العام، هاربين من المعالجات الموضوعية للحدث، وبالتالي الهروب من المواجهة، مع أن العقل يرفض الانتهازية، والمبادئ تصطدم مع النفاق والفساد والسلبية، وقد أظهرت الأزمة الراهنة أشكالاً وقوالب متلونة لبعض المثقفين والمبدعين والفنانين الذين ركنوا إلى الافتعال والخداع والبحث عن المصلحة، التي تُبدل مواقفهم السياسية بما يوافقها، إذ لمسنا حالات كثيرة انتقلت مرات عديدة بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، ودائماً كانت تبريراتهم عن خيانتهم جاهزة.

فأغلب المثقفين من الجنسين يجالسونك ويتحدثون معك بخلفية ثقافية رائعة، لا حدود لها، ولديهم المشاريع والأحلام الجاهزة بخصوص البلد، وعندهم الإنسان هو أسمى معاني الحياة وحقوقه مقدسة وواجبة تطبيق القانون، ويقاتلون من أجل حقوق المرأة والطفل والمسُن وحمايتهم من العنف والنزاعات المسلحة والحروب، وإلى ما هنالك من أحاديث وخطابات نارية وحكم ومبادئ أخلاقية وإنسانية، تجعلك للحظات تشعر أن البلد باتت ربيعاً دائم الخضرة بوجود أمثالهم، وتفتخر بهم وبدرجة وعيهم وثقافتهم، لكن لا تلبث الفرحة أن تكتمل حتى ترتطم الآمال سريعاً بخيبات كبيرة حين تصطدم بواقعهم على الأرض، ونرى تصرفاتهم وردات فعلهم مع محيطهم، وبالذات من يدعون أنهم جزء من مشروع عملهم في الدفاع عن حقوقهم، والمفاجأة الكبرى حين تكتشف إهمالهم لأقرب الأشخاص إليهم فكيف بالغريب عنهم؟.

إن ازدواجية المعايير هي داء إنساني عالمي، ولكنها في سورية أصابت مئات المثقفين والكتّاب قبل غيرهم، على الرغم من أن مهمة المفكر والمثقف تفرض عليه الشفافية والاستقامة والنزاهة الفكرية.

كلمة لابد منها إن حياتنا الثقافية تفتقد للفعل الثقافي، لحركة ثقافية قادرة على التأثير، حركة لها كيان وصوت وقرار، فلا يمكن وضع سقف للتقدم الثقافي في عالم سريع التطور، دائم التغير والتبدل بل والتحول، لأن وضع سقف لثقافة أمة يعني وقف نمو الأمة، والإخلال بشروط بقائها ونمائها، وبالتالي بداية شوط السقوط والموت، وهو ما لمسنا نتائجة خلال الأزمة الراهنة، فكثر المثقفون المنتمون قبلياً وعشائرياً والمتعصبون قومياً، بدلاً من المثقف الرافع لواء الوطنية، والمتحرر من التبعية أي كان نوعها وشكلها الفكري أو السياسي أو الاجتماعي.

إن المطلوب اليوم في علاقاتنا الثقافية والفكرية إحياء العلاقة مع القارئ والمجتمع الذي يدعي الكثيرون تمثيله في إبداعهم ونصوصهم المختلفة، ولكنهم بعيدون كل البعد عن نبضه.. نحتاج إلى أفكار متمردة تطرح التغيير والتجديد وتنظر إلى المستقبل بعقل متحرر.

يا مثقفي بلدي، اشبكوا الأيدي وتعاضدوا جميعاً، ثوروا على الظلم والفساد، خاصموا المرتهن للخارج ولتكن إرادتكم نابعة من ذاتكم وبوحي من ضميركم وحسكم الوطني، وتذكروا دائماً أن من يُشترى يُباع، فلا تكونوا أداة للشراء، ولا تبيعوا الذات مهما غلا الثمن، فلا يوجد أغلى من وطن وهو اليوم بأمس الحاجة لأبنائه الحقيقيين مهما علت مراتبهم ودرجة علمهم وثقافتهم، والذين على عاتقهم تقع مسؤولية تطويره وتعليمه وتثقيفه.. فمن يحمل راية الثقافة والعلم يقع على عاتقه مسؤولية كبيرة لبلده وليس فقط لقب يحمله للشهرة والإعلام.

العدد 1107 - 22/5/2024