ثورة أكتوبر.. دروس الإخفاق

في تاريخ البشرية أحداث تركت آثارها على مجمل حركة التاريخ وتطور الحضارة والمعرفة والثقافة الإنسانية، بتفاعل حركيتها وتظافر نتائجها وتكاملها.

في هذه الأحداث ثورة أكتوبر التي فجرها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي بقيادة السياسي والمفكر والمناضل الثوري فلاديمير اليتش لينين متجاوزاً بوعي معرفي تاريخي مقولة ماركس (الثورة الاشتراكية لا يمكن أن تنجح إلا في الدول الرأسمالية الأكثر تطوراً وفي وقت واحد). بينما رأى لينين ببصيرته الثورية وخبرته النظرية أن روسيا القيصرية، وهي أضعف حلقات النظام الرأسمالي، بيئة صالحة لنجاح الثورة الاشتراكية فكلنا يتذكر مقولته: يجب أن نقوم بالثورة اليوم، فالأمس باكراً، وغداً الوقت متأخر، اليوم.. اليوم.

وهكذا كان الحدث الذي هز العالم وأطلقت شرارته الأولى المدمرة لافرورا من نهر الفولغا من مدينة لينيغراد.

كانت ظروف روسيا القيصرية مهيأة للثورة، فهي تعاني من تخلف اقتصادي وفقر مدقع بعد خروجها من حرب مدمرة ذهب ضحيتها الآلاف، وتركت جراحاً عميقة في وجدان وضمير الشعب الروسي المتعطش للحرية وللانعتاق من العبودية.

أكدت ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في خطواتها الأولى مفاهيم ومقولات معممة ما تزال مسار جدل وخلاف حتى بعد فشل التجربة وتفكك الدولة التي شيدتها الثورة.

1- التعميم الأول لا بد من ظروف موضوعية لنجاح الثورة.

2- يجب أن تتوفر قيادة ثورية تحدد الاستراتيجية والتكتيك الثوريين.

3- نظرية ثورية عامة.

4- التفاف جماهيري حول الثورة وقوة اجتماعية تحمل لواءها، وقد كانت تلك القوة هي الطبقة العاملة المتحالفة مع جماهير الفلاحين هذا التحالف التاريخي الذي ضم فيما بعد المثقفين الثوريين وسائر الكادحين.

تجربة إخفاق الثورة والمقولات التي أفرزتها وعممتها تحتاج إلى قراءات جديدة متحررة من أسر الماضي وانفعاليته، تأخذ بعين الاعتبار الظروف التاريخية التي أُنجزت الثورة في أحضانها. فمن الخطأ بمكان أن نحاكم تلك التجربة ونطلق عليها أحكاماً إيجاباً أو سلباً وفق منظوماتنا المعرفية الحالية، فالعالم قد تغير والأفكار قد تبدلت وتحولت، لكن جوهر الأفكار والأساس النظري الذي استندت إليه الثورة البلشفية بقي بمجمله صحيحاً، وهو الماركسية اللينية والمادية الجدلية التي تتعرض لامتحان الزمن، وتحتاج دائماً إلى مراجعة وإغناء وتطوير وفق خصائص المرحلة التاريخية وملابسات كل بلد من بلدان العالم.

خاضت الثورة مواجهات حادة وعنيفة.. حرباً أهلية طبقية ضارية.. وتدخلاً خارجياً عدوانياً من الدول الرأسمالية.. وظواهر أفرزتها الثورة في مسارها كالبيروقراطية، لكن إرادة الشعب الروسي بعماله وفلاحيه وقيادته السياسية استطاعوا الانتصار على أعداء الداخل والخارج بفعل التلاحم الوثيق بين أبناء الشعب والقيادة والسياسات الرشيدة التي مارستها حكومة الثورة، وكان في مقدمتها مرسوم الأرض، وكهربة البلاد، وبناء السكك الحديدية شرايين الاقتصاد.

لم يكن الانتصار على النازية والفاشية إلا واحداً من أهم مآثر ثورة أكتوبر، فقد غيّر هذا النصر الكبير (الحرب الوطنية العظمى) مسار حركة التاريخ، فكان من ثماره نشوء منظومة الدول الاشتراكية، والمساعدات التي قدمت إلى حركات التحرر الوطني التي بفضلها استطاعت معظم الدول الرازخة تحت نير الاستعمار التحرر والتخلص من الاستغلال وبناء الدولة الوطنية.

العبر والدروس من تجربة الثورة البلشفية وبناء الدولة السوفيتية تبقى مادة بحثية نظرية وتطبيقية تحتاج إلى عقول نيرة تتصف بالموضوعية والبعد عن الانفعال بأحداثها في استخلاص العبر وتعميمها على شعوب العالم.

النظام الرأسمالي المعولم ليس بديلاً للنظام الاشتراكي المتجدد الذي يجب أن يحسن الاستفادة من تجربة الإخفاق بكل ما حملته من ثغرات ونواقص، وما أفرزته من صعوبات ومشاكل وتحديات، كان يمكن حلها بطرق أخرى يطيل عمر التجربة ولا يؤدي إلى اضمحلالها، لكن الأمل يبقى حادياً للإنسانية يوجهها نحو بناء عالم جديد تتحقق فيه إنسانية الإنسان وينتفي فيه اضطهاد شعب لآخر، ويعم فيه السلام، ويشعر أبناء المعمورة جميعاً أن حاجاتهم المادية والمعنوية قد تم تلبيتها، وهم سادة في أوطانهم يقررون مصيرهم بأنفسهم دون أي تدخل خارجي ولإملاءات عدوانية بغيضة، أليست هذه هي مبادئ ثورة أكتوبر التي صدقت نواياها حتى ولو أخفقت تجربتها..

المجد لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى التي بدأ بها القرن العشرون وانتهى بإخفاقها، المجد لشهداء الثورة والخلود لكل من ساهم في تفجيرها ومساندتها في كل أنحاء العالم، والنصر للإنسان في تطلعه الدؤوب نحو الحرية والعدالة الاجتماعية.

العدد 1104 - 24/4/2024