توازي المسارات

 من المفرح والمثير للإعجاب الإنجازات التي يحققها الجيش العربي السوري والقوات الحليفة والرديفة على أرض الواقع، ففك الحصار عن مدينة دير الزور وعن مطارها العسكري، والتوجه شرقاً عبر نهر الفرات إلى البوكمال والميادين، ومطاردة فلول (داعش) المبدّدة والمشتتة في البادية السورية، هي أعمال بطولية تستحق التوقف والتأمل.

لكن هذه الإنجازات العسكرية، إذا لم يواكبها إنجازات على جبهات المواجهة المتعددة والمتداخلة (العسكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية)، تصبح معرضة للخطر، إن لم نقل تصبح إنجازاً جغرافياً، مع عدم التشكيك في أهميته الوطنية، في مواجهة مشاريع التقسيم التي وُئدت بعودة دير الزور إلى حضن الوطن.

وما يلفت النظر في سياق آخر تزامن هذه العودة والتظاهرة المؤيدة لمنتخبنا الوطني لكرة القدم، فقد عمت الأفراح كل الأراضي السورية في لحمة وطنية، وقد انصهر الشباب فيها، وهم من أكثر المتضررين من السنوات العجاف التي مرت على سورية، انصهروا في بوتقة واحدة في صف وطني موحد، لعله من أثمن ما تحقّق إنجازه معنوياً في المرحلة الراهنة، تلك التظاهرات التي أكدت عمق الوطنية السورية وبينت أن الجراح السطحية والآثار الجانبية وخدوش المحنة السورية لم تتغلغل إلى أعماق النفوس السورية المعروفة تاريخياً بوطنيتها وحرصها على تلاحم النسيج الاجتماعي الذي كاد أن يهتز بفعل مفرزات المحنة.

تزامن عودة دير الزور إلى حضن الوطن، والاندفاعة الوطنية لعشاق كرة القدم، دلالة بينة لا تقبل الجدل حول إمكانيات تجاوز مخلفات الأزمة بكل ما تحمله من مخرجات سلبية، إذا جرت معاينة الظواهر والوصول إلى استنتاجات صحيحة.

ما يمكن أن نقوله إن على الجميع من محبي سورية المخلصين لها أن يبذلوا كل ما في وسعهم من أجل العمل على توازي المسارات في المعركة المصيرية الكبرى، لأن أي تقدم في مسار (جزئي) لا يتواكب مع المسارات الأخرى، يعيق الحركة الكلية لتفاعل تلك المسارات.

إن تثمير الظاهرتين في ترسيخ الوحدة الوطنية (وحدة الأرض والمشاعر والأحاسيس) واستتباعها بإجراءات أخرى، كفيل بتعزيز الوحدة الوطنية وتمتين النسيج الاجتماعي وصيانة الدولة ومؤسساتها. وهذا يتطلب في أسرع وقت ممكن وضع استراتيجيات عامة هدفها بناء إنسان المرحلة المؤمن بوطنه (إنسان المواطنة) الواثق بمؤسساته، المتحرر من الفكر الغيبي والوعي الزائف، إنسان يقر بالتنوع والتعدد وحق الاختلاف والعيش المشترك، مؤمن بالحوار طريقاً إلى الحقيقة، إنسان منفتح على ثقافات العالم، متحرر من عقد النقص والدونية المعرفية، متملك لتراثه، مدرك لأهمية دوره في بناء الحضارة الإنسانية.

إنسان اليوم هو مشروع الغد، الذي نأمل لسورية عمق التاريخ وبلاد النور، سورية الأفق المفتوح، والجرأة على مواجهة الراهن وتخليصه من كل أدرانه، بموضوعية علمية تعتمد فكراً نقدياً عقلانياً، يجمع ولا يعرف، يوحد دون أن يقصي أو يلغي، وبهوية متفاعلة من مجموع الهويات التي عبرت تاريخ المنطقة، دون اجتزاء ولا تعميم، على أساس مبدأ الوحدة في التنوع.

 

العدد 1104 - 24/4/2024