ازدواجية المثقف وبعض تناقضاته

تتنامى وظيفة المثقف في المجتمعات النامية، فتزداد مهامه، فهو ليس حامل ثقافة ولا ناقلاً لها فقط، بل هو نموذج يحتذى في السلوك أولاً، وبأخذ مواقفه وأقواله شواهد لدعم آراء الملتقين والمشاركين في عملية إنتاج المعرفة الاجتماعية ثانياً.

يحمِّل المجتمعُ المثقفَ مسؤوليات جساماً، يطلب منه أن يكون الناطق باسمه، منادياً بالحق، جاهراً بما يعتقد حتى لو كلفه ذلك الكثير من راحته وهدوء أعصابه، لكن المثقف بحكم وضعه ومصالحه، لا يستطيع أن يحمل هموم الناس كما يشعرون بها، أو كما يريدون أن تُنقل إلى أصحاب القرار، لأن هذه الآراء والمواقف تتلون بمزاج المثقف وتصطبغ بذبذباته.

فبحكم دور المثقف (الوسيط) بين الفئات الاجتماعية على اختلاف مصالحها، وأصحاب القرار، يعيش حالةً دائمةً من القلق والتوتر، فلا هو يرضي أصحاب الشأن، ولا هو يفي بوظيفته الاجتماعية المعرفية، هذا من جهة،
ومن الجهة الثانية، يعيش المثقف ازدواجيةً أشد مضاضةً، فهو ابن مجتمعه، وابن عصره، محكوم بتناقضاته ومشاكله، وفي المحصلة هو ابن واقعه المتخلف الذي يشده إليه بكل ما يملك من قوة جذب المألوف، وتحكّم العادات وهيمنة الأعراف،
وما استقر بحكم التصادم من آراء، لذلك يعيش المثقف حالةً من التناقض الحاد، تبلغ حد الانفصام الواعي بين واقع متردٍّ يشدّه إليه، وقناعاته وطموحاته وثقافته، التي غالباً ما تكون مصادرها من خارج السياقات الاجتماعية والفكرية لواقعه المحكوم بالانتماء إلى فئاته الاجتماعية بكل طموحاتها.

كيف يحل المثقف هذه المعضلة الفصامية؟

لا يمكن تجاوز تلك الحالة إلا بالانغماس في أعماق الواقع، وإدراك أهم العوامل المؤثرة فيه، القديم منها والمعاصر، بالتوفيق بين معطيات الواقع (الراهن) بكل أثقاله، وما يطمح المثقف للوصول إليه كنموذج متجاوز (للراهن) باتجاه المستقبل.. الذي يساهم المثقف في رسم ملامحه والتنبؤ بها.

أما إذا استقال المثقف وتخلى عن وظائفه وآثر السلامة، فهذا شأنه، إلا أنه في هذه الحالة يتنازل عن دوره وعن واجبه، كحامل معرفة وكرائد لا يكذب أهله، وكمسؤول تاريخياً عن واقعه وتطويره.

نحن بأمسّ الحاجة اليوم إلى المثقف الرسولي الذي لا يسعى إلى الإبهار بفيض المعلومات والمعارف التي يحملها، فهي موجودة في فضائها ويمكن الوصول إليها، الحاجة اليوم إلى المثقف الذي يحلل ويركب ويستنتج ويكشف ترابط العلاقات وتفاعل التأثيرات في الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

ومن أخطر الأمور التي تواجه المثقف أن يتحول إلى بوق للتبرير وكسب رضا أصحاب الشأن، بغية الوصول إلى مراتب أعلى في الهرم الوظيفي، فهو يخسر الثقافة ولا يربح الوظيفة، والأنكى من ذلك استخدام أساليب بث الفرقة والتشجيع على الكراهية والتحريض والكيدية، والإيقاع بمن يختلف معهم في الرأي، وهو الجدير بصيانة حق الاختلاف والاعتراف بالتنوع الخلاق، الذي لا تحيا ثقافة إلا به.

مثقف اليوم مدعو إلى إبراز النقاط المشتركة، والعمل على تدوير الزوايا وصولاً إلى ائتلاف في اختلاف، وتعدد في وحدة، وإلا حل التباعد والتناقض بين المثقفين وفسد الهواء الذي يتنفسونه، مما يضعف من مكانتهم ويحرمهم من حقهم الطبيعي في أن يكونوا قدوة ومثالاً لغيرهم، فيصبحون في أحيان كثيرة أضحوكة للآخرين.

المثقف ليس بما ينطق به من أفكار ويتلفظ بمفردات ويطرح من مقولات في سوق التداول، ولا هو من يكثر من الظهور في وسائل الإعلام، إنه من يوائم ما استطاع بين ما يقوله وما يفعله، بين ما يظهره وما يبطنه، إنه رسول المرحلة وابنها البار بها وبالثقافة التي يحملها.

مكانة المثقف في مجتمعه تقاس بما يقدم من خدمات للإنسانية، وبما يساعد به على نشر ثقافة الحب في وجه الكراهية، وبقدر ما يوفق بين ما يدلي به من آراء، وما يتخذ من مواقف لا تتوخى مصلحته الشخصية، وإنما تتجاوزها إلى المصلحة العامة التي لا يُختلف عليها، وهي اليوم تمتين عرى النسيج الاجتماعي والمحافظة على وحدة الوطن وبناء مؤسسات الدولة الحديثة.

 

العدد 1104 - 24/4/2024