الانتماء إلى الوطن من الغريزة إلى الوعي

ما يميز الإنسان من سائر الكائنات الحية، ليس علاقته العفوية الغريزية بوطنه، فكل الأحياء تدافع عن أوطانها فهو مصدر حياتها وسر وجودها، ما يميز الإنسان هو وعيه لهذا الشعور والارتقاء به وصولاً إلى حد التماهي مع الأرض التي يعيش عليها، ومحاولاته عبر تاريخه تطوير ما يحيط به وتسخيره لخدمته، والانتقال به من مملكة الضرورة إلى وعي الحرية، بمعرفة قوانين الواقع والسيطرة عليها علمياً لما يخدم مصلحة الإنسان، على طريقه الطويل نحو تحقيق إنسانيته.

الوطن إذاً ليس فقط الأرض التي درجنا عليها أطفالاً، ولا الماء والهواء اللذين من دونهما نفقد الحياة، إنه التراب الذي ضم رفات أجدادنا، وليس عبثاً أن قال المعري:

خفِّف الوطءَ ما أظنُّ أديمَ

الأرضِ إلّا من هذه الأجسادِ

والوطن هو تاريخ النضال من أجل السيادة وطرد المحتلين الغاصبين، فلن ترى حفنة رمل فوقها لم تعطر بدماء حر أبي، وهو:

هذا الترابُ دمٌ بالدمعِ ممتزجٌ

تهبُّ منهُ على الأجيالِ أنسامُ

 الوطن هو التاريخ بكل مجرياته وما احتوته من انتصارات وانكسارات، هو الذاكرة الجمعية التي تربط بين كل مكوناته، وتمدّهم بكنوز من الخبرات والتجارب، وتقدم لهم كل ما يساعدهم على بناء مستقبلهم، وعليهم أن يحسنوا الاختيار من ماضيهم، شريطة عدم استنساخه وتكراره، لأن الأموات يجب أن لا يحكموا الأحياء، ولكل فترة زمنية مشاكلها وطرح حلولها.

الوطن هو اللغة التي نتكلم بها، أداة التواصل والتعبير وصلة الوصل بين الماضي والحاضر، وحبل السرّة الذي يجمع بين أفراد أبناء الأمة الواحدة، وهي لسانهم وجزء من عقليتهم، وما لغة شعب من الشعوب، إلا روحه كما أن روح الشعب هي لغته، والوطن هو العادات والتقاليد، ذكريات الماضي وأحلام المستقبل عبر اللغة، فليس بإمكان أحد أن يتموضع خارج اللغة، فهي ليست مجرد مصفوفات من الألفاظ والكلمات (الأصوات) الخاضعة لبنية نحوية ومنطقية، وإنما هي وعاء للثقافة والفكر والخبرة، وهي بنية ذهنية دستورية، وحامل ثقافي، وحاضنة للفكر، وهي مأوى الكائن ومثواه، ولا مجال هنا للحديث عن أهمية اللغة العربية ودورها في توحيد أبناء الوطن الواحد.

التعالق بين اللغة والثقافة

التعالق بين اللغة والثقافة، هو من أشد التعالقات التي تدفع الفرد إلى اكتساب هذه الثقافة (الهوية) أو تلك، فلا يوجد في العالم ثقافة نقية، وإنما هناك تفاعل ثقافي وتبادل معرفي، فكل ثقافة منغلقة تحكم على نفسها بالموت، وحياة ثقافة ما وتطورها محكوم بفعل التبادل والاغتناء في علاقة جدلية مع الثقافات.. في الوطن الواحد أيضاً تفاعل ثقافات والحديث عن الثقافة قد يطول، الثقافة الجامعة والعروة الوثقى هي الثقافة الوطنية، بكل مكوناتها الداعية إلى حب الوطن والعمل على ازدهاره ورفعة شأنه، وهي بطبيعتها معادية للاستعمار وضد التدخلات الخارجية، ومع العدالة الاجتماعية، وهي بالتالي سلاح من أسلحة الدفاع عن هوية الأمة ووسيلة من وسائل التأكيد على امتدادها التاريخي، وعامل مساعد على حالة الانصهار بين النضال الوطني والنضال القومي والسعي إلى التقدم الاجتماعي.. كما أنها ثقافة ترفض الجمود والسكون والثبات، وتدعو إلى العقلانية في التفكير وإلى المنهج العلمي في قراءة الواقع والمستقبل. لعل سؤال الهوية من أهم الأسئلة التي واجهها العرب منذ فجر شعورهم بالتمايز القومي (الإثني) منذ الاحتلال العثماني، وبعده في مواجهة الغرب الرأسمالي، فهو سؤال مازال يؤرق العرب ويشتد إلحاحاً في فترات المواجهات المصيرية الكبرى.

العلاقة التفاعلية بين الوطن والمواطن

من الصعب الحديث عن تنمية الشعور الوطني إذا لم نتطرق للمواطن، فلا وطن من دون مواطنين، وحرية الأوطان من حرية أبنائها، فكما أنه لا حياة كريمة لــــــوطــــن مسلوب الإرادة، حتى يصبح مستقلاً سيداً، حراً في خياراته، كذلك لا كرامة لمواطن لا يتمتع بحقوقه في وطنه، فالوطن المعافى الحر هو الذي يضمن لأبنائه الحياة الكريمة القائمة على العدالة والمساواة أمام القانون، والذي تضمن له مؤسساته كل الحقوق الإنسانية المشروعة، فالعلاقة بين الوطن والمواطن توافق اجتماعي، يعي فيه المواطن حقوقه ويقوم بواجباته كاملة نحو وطنه. يتعاظم دور المواطن بعلاقته مع وطنه في الأزمات والمحن، فالعضوية الحية عندما تتعرض للأخطار تستجمع كل قواها للدفاع عن نفسها، هذا غريزياً، أما في حالة الوعي فعلى كل القوى المشكّلة للكلية الاجتماعية الدفاع عن كيانها، عن وجودها، عن هويتها الكلية، متجاوزة الانتماءات الجزئية الضيقة.

هذا التوحد لا يلغي التناقضات الموجودة في المجتمع الواحد، بل يؤجل أو يقرب الخلافات ويدوّر الزوايا، ويبحث عن نقاط الالتقاء ودوائر الاتصال، لأن الفئات الاجتماعية إذا خسرت الوطن، خسرت كل مصالحها وحقوقها وانتماءاتها.

 هذه اللحمة الوطنية، القوة الكامنة في نفس كل مواطن تتعاظم وتنمو عند الأخطار، وهي ليست من قبيل التضايف، وإنما التفاعل، ومحصلتها ليست حاصل جميع كل القوى عددياً، وإنما تراكم وتحول نوعي في الفعل الوطني.. والحديث عن المواطن لا يستقيم دون الحديث عن المجتمع، القائم على التعدد والاختلاف الاجتماعي الثقافي، الإثني، هذا الاختلاف مصدر غنى وقوة إذا استطعنا المحافظة على القواسم المشتركة فيه، وطبّقنا عليه قانون الوحدة في التنوع الخلاق.

أهداف الحرب على سورية

ما يجري الآن في بلادنا هو النيل من وحدة النسيج الاجتماعي وتفكيك المجتمع، والعودة إلى الانتماءات ما قبل الدولة (الدينية – الفئوية- المناطقية – الطائفية..)، وعلينا أن ننظر إلى أعماق الظاهر والأهداف، وننتقل من فيزياء البصر إلى كيمياء البصيرة عند النظر في العلاقة بين وحدة الأرض ووحدة النسيج الاجتماعي. وفي الختام لا يمكن أن نضمن ونصون وحدة التراب الوطني، ونحافظ على المواطن – المواطنة، ونصون النسيج الاجتماعي من التمزق، إلا بدولة المؤسسات الناظمة لهذه العلاقة.

إن الدولة هي السبيل الرئيس الذي يمكن من خلاله لشعب ما أن يحقق هويته وأهدافه، فأي ثقافة أو هوية إثنية أو دينية لا يمكن أن تحظى بالأهمية إلا عبر مبدأ الدولة الموحد، ليس فقط بمبدأ قوتها الذاتية وإنما بمحتوى مؤسساتها وقدرتها على صيانة الأمن للوطن وللمواطنين.

أي وطن نريد، وأية هوية له، بعد أن دفعنا ثمناً باهظاً، وتكالبت على بلادنا قوى مختلفة ومتخلفة..؟

 إننا نطمح إلى بلد حر  في قراراته، وإلى شعب يعرف ماذا يريد عن علم وثقافة، وإلى دولة بكامل مقوماتها.دولة مواطنة، تضمن للإنسان احتياجاته المعنوية والمادية كافة، يعيش فيها أبناؤها تحت علم واحد، وهوية جامعة موحدة، ينتفي فيها الاستغلال والتخلف، دولة العقلانية والعلم، دولة سيادة القانون، دولة مدنية علمانية ديمقراطية، تعادل الثمن الذي دفع في حرب ظالمة شُنّت على وطننا. إن أبناء هذا الوطن بكل مكوناته، جيشاً وشعباً، يستحقون حياة حرة كريمة عصرية.

تنمية الشعور الوطني وتعزيزه في الوعي الاجتماعي مهمة دائمة وملحة وهي واجب على كل مثقف ومواطن، يتعاظم في هذه العملية دور المؤسسات بدءاً من الأسرة إلى وزارة التربية، فالتعليم العالي والثقافة والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، وفي الوقت الحالي على كل هذه المؤسسات أن تجد أعمالاً مشتركة وفق خطة منهجية للقيام بهذه المهمة النبيلة.

العدد 1104 - 24/4/2024