تنوع الأجناس الأدبية بين الغوص في العمق والانتشار في المدى

 يتميز الإنتاج الإبداعي لكثير من الأدباء بالتنوع الأجناسي، فيكتبون القصة القصيرة، والرواية، والشعر بكل أشكاله المعروفة، وكذلك المسرح.. فإذا كانت العلاقة بين القصة القصيرة، والرواية واضحة (أصل وفرع)، مع التمايز الشديد في الأدوات والمكونات، فما هي العلاقة بينهما وبين الشعر مثلاً؟

قد نلمس تشابهاً أو تقارباً بين القصيدة الخاطرة (الومضة) أو بين قصيدة النثر، والقصة القصيرة، أو القصيرة جداً، من حيث التكثيف والإيجاز والإيحاء والمفاجأة وإحداث الدهشة، أو قد تعتمد القصة على لغة الشعر مادة بنائية دلالية لها، شريطة أن تحافظ على سرديتها ولا تطغى عليها لغة الشعر.

ما هي علاقة كل تلك الأنواع بالكتابة للمسرح الذي يعتمد أصلاً الحوار والمشهدية أداة تواصلية أساسية في بنائه الفني؟

يقودنا الحديث عن تعدد الأنواع الأدبية إلى نظرية تراسل الأجناس الأدبية، فهناك من يقول بشفافية الحدود الفاصلة بين الأنواع (تداخل الأجناس) وهي نظرية قديمة لها أنصارها من الذين يدعون إلى امّحاء الحدود الفاصلة داعين إلى ما يسمى بالكتابة أو النص المفتوح.

إلغاء الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية يفضي إلى تماهي الأجناس، فثمة محددات لكل جنس أدبي تميزه عن غيره، لكن هذه المحددات قابلة للانزياح والتبدل على أساس مقولة (الثابت التكويني والمتغير البنائي).

والسؤال المطروح: ألا يفضي تعدد الأجناس في إنتاج الكاتب الواحد إلى بعثرة في الاتجاه، وانفلاش وعدم تركيز وانتشار في المدى بعيداً عن الغوص في العمق؟

ألا يؤدي التركيز على نوع أدبي واحد وإجادته، واكتساب الخبرات الفنية من خلال ممارسته إلى إجادة أعمق، وقدرة على ابتداع أشكال فنية تحمل المضامين التي يريد إيصالها المبدع؟

قد يحتج بعضهم بأن التخصص في نوع أدبي يقيد حرية الحركة ويحاصر الذات الإبداعية للكاتب، الميالة دائماً إلى الانعتاق ونشدان الحرية، إضافة إلى أن غنى الكاتب وعمق ثقافته وتجاربه، قد لا يتسع لها نوع أدبي واحد.

يمكن الرد على ذلك، بأن اختيار الأشكال الأدبية ليست مسألة فردية، تتعلق بمزاجية الكاتب ورغبته، وإنما هي عملية معقدة، مزيج من الفردي والاجتماعي التاريخي والثقافي، حتى ولو استبعدنا ملاءمة الأنواع الأدبية لموضوعات محددة وقدرة هذه الأنواع على تجسيد احتياجات الواقع، والتنبؤ بإمكانيات المستقبل.

الأدب أدب:
شعراً ونثراً، قصة ورواية، مسرحاً وخاطرة، لكن ضياع الحدود بين الأجناس قد يربك المتلقي، لأننا عندما نطالع عنواناً ما.. مجموعة قصصية أو رواية، فالتجنيس هنا لحظة اللقاء الأولى بين المبدع والمتلقي، فعندما تطالع على صفحة الغلاف (رواية) تتحفز مجسّات التلقي لدينا لاستقبال عمل روائي،
والطريقة آلية ينزاح بشكل لاشعوري كل ما لا يتعلق بفن الرواية، ويأخذ الذائقة الخبيرة، بمكانة العمل المقروء في ما هو متعارف عليه من أسس وشروط الرواية بكل مقوماتها الفنية وعناصر تكوينها، وأهمها المحافظة على السرد فيها حتى ولو جنحت الرواية في كثير من الأحيان إلى لغة الشعر، لكنها تبقى نوعاً سردياً يمكن أن يتسع صدره لكل أشكال الأدب، وحتى الفنون التشكيلية والبصرية لكنها تبقى رواية.

التمسك بالحدود الفاصلة بين الأنواع ليس موقفاً محافظاً، لأنه لا يؤبد العناصر المكونة لكل جنس، وإنما يعترف بإمكانيات تغير العناصر وتبدل الأشكال التي لا تعرف المطلقات، فهي، حتى ولو وجد استقرار فهو نسبي، قابلة في أية لحظة للتبدل والتغير.

العناية والدربة على كتابة نوع أدبي والتخصص به، يبقى أفضل بكثير على الأقل من وجهة نظرنا من التعدد والتنقل بين الأنواع والأجناس الأدبية.

العدد 1104 - 24/4/2024