الثقافة في مركز الصدارة

ليس خافياً على أحد من أهل العلم والاهتمام بالثقافة، بمعناها الواسع الشامل، أن مكوناتها إنما هي انعكاس جدلي لمجمل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة في مجتمع ضمن شروط محدودة تاريخياً، لكن هذا الانعكاس ليس ميكانيكياً، وإنما هو متفاعل مع ما يعكسه.

الثقافة تبقى بنية فوقية، وقد تأخذ مكان الصدارة والقيادة في ظروف خاصة، كالتي تمر بها سورية اليوم، إذ تتصدر المشهد وتتخطى كونها انعكاساً لتحتل مكان القيادة والفعل فيه.

هذا الموقع الجديد يفرض على الثقافة والمثقفين أن يمارسوا دورهم الريادي في عملية التثقيف ويتحلوا بكل ما يمكن من الحذر في إطلاق الأحكام العامة، وأن ينحوا إلى الدقة والمصداقية في السلوك محتكمين إلى العقل.

لا ثقافة بلا سياسة ثقافية، ولا سياسة عامة بلا ثقافة، والعلاقة التفاعلية بينهما لا تحتاج إلى مناقشة، ما يستدعي المناقشة هو المؤسسات التي تتولى العمليتين السياسية والثقافية.

يميل البعض إلى تحميل الثقافة/ المثقف المسؤولية عن تردّي أو تدنّي المستوى الثقافي أو عدم فاعليتها أو قصورها في حالة المحنة السورية، ويتساءلون: أين الثقافة من المعركة؟ وكيف تمارس دورها؟!

وينحون باللائمة على حمَلَة الثقافة.

لا نعفي المثقفين من المسؤولية عن قصور الفاعلية الثقافية، ولا عن تراجع دورها في صياغة وجدان الناس وبلورة مواقفهم في مواجهة التحديات الكبرى التي يتعرضون لها، في وطن أصبح كل شيء فيه بحاجة ماسة إلى إعادة بناء.

لكن مفاتيح الحلول السحرية/ المتوهمة/ ليست بأيدي المثقفين، إنها تحت تصرف السياسي وملكيته، فهو صاحب القرار وهو المشرف على تنفيذه (السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، السلطة الرابعة).

هذا يعني أن العملية متعلقة بشكل أساسي بالمشروع الثقافي الذي يساهم الثقافي، دون أدنى شك، في صياغته، ثم يقرّه السياسي بالتوافق والاتفاق، وبمقدار ما يكون المشروع واقعياً مدروساً منهجياً يلبي احتياجات التلقي واستحقاقات المرحلة يُكتب له النجاح ويحقق أهدافه.

تحقيق هذه الأهداف يتوقف إلى حد كبير ليس على المشروع نفسه فحسب، وإنما على حوامله/ المؤسسة- والمشرفين عليها/ فاختيار الكوادر المشرفة والمنفذة يكفل مدى نجاح المشروع، فإذا أحسنا الاختيار ثقافة وسلوكاً للمسؤولين عن الثقافة وعن تحقيق مشروعها الوطني نضمن الوصول إلى ما نريده من قوة تأثيرها على الناس.

هذه المهمة ليس سهلة وتتطلب مجموعة عوامل تساعد على توحد عناصرها أو مكوناتها في الفكر والأدب والفن والإعلام والإنتاج والتلقي.

ثمة علاقة قائمة بين الشروط الإنتاج الثقافي وظروف تلقيه، فإن حصل خلل في العلاقة المتبادلة بين الطرفين (الإنتاج، والتلقي) تعطلت الدائرة وضاعت الجهود، فالثقافة الجادة والرصينة، الشاملة والعميقة، تحتاج إلى متلقٍّ تؤمن له أبسط حقوقه في الأمن والاستقرار والطمأنينة.

على المثقفين أن يكونوا حراس الجودة في الإنتاج، يشجعون القيم فنياً ويحاربون الرداءة في كل إنتاج ثقافي ومعرفي وأدبي، وإلا طردت العملات الرديئة العملات الجيدة، فالترويج للرداءة يشكل خطراً كبيراً على الثقافة، وهنا يبرز دور النقد والنقاد في التصدي للظواهر المريبة في الفعل الثقافي، بالتمييز بين الجيد والرديء، وهو من أولويات العملية النقدية.

سؤال الثقافة ودورها في المواجهة هو من أكثر الأسئلة إلحاحاً، والإجابة عنه بشكل صحي وصحيح يفضي إلى مساعفة الثقافة في ممارسة دورها الاجتماعي والتصدي للظلامية الإرهابية، والمساهمة في إعلاء شأن ودور الثقافة الوطنية الراعفة، والحامل الأول في مواجهة ثقافات القتل والتكفير والعدوانية ونشر الفكر الغيبي وتغذية الغرائزية في التفكير والتشرذم وتفتيت اللحمة الاجتماعية.

خطورة إهمال الثقافة والتغاضي عن دورها، وعدم الاهتمام بالمثقفين والالتفات إلى مشاكلهم وقضاياهم الملحة المعروفة للجميع، كل ذلك يعرّض الوطن لأخطاء إضافية هو في أمسّ الحاجة إلى التصدي لها ومواجهتها بجرأة وشجاعة قوامها تضافر العلاقة والفعل بين السياسي والمثقف.

العدد 1104 - 24/4/2024